كان مساءً بارداً من ليالي ديسمبر القارسة. أتذكر ذلك جيداً .. الشوارع مبتلّة وبقايا رذاذ خفيف يداعب الوجوه بلطف، ومعدتي تعتصرني من الجوع لأني لم أتناول شيئاً منذ الصباح. تونس عاصمة جميلة جداً لكنها بدت لي موحشة ذلك المساء. وأنا لا أعرف أحداً قريباً في هذا المكان، منذ خمس ساعات أجوب الشوارع، أتأمل وجوه المارة، وأفكر في حل. ودائماً أتوقف أمام محطة القطارات الرئيسة في المدينة .. غير أني لا أملك ثمن وجبة آكلها فكيف يكون بحوزتي ثمن بطاقة ركوب القطار طريقي الوحيد إلى مبيتي «سكني» الجامعي الذي يبعد 30 كيلو متراً عن المدينة؟؟ تسرعتُ بل قل تهورتُ عندما أقدمت على صرف آخر مدخراتي من المال في شراء ملابس شتوية. وكان عليّ أن أحسن التصرف مثل أي طالب واجبه الاحتراس من مفاجآت الزمن، مثل تأخر النقود كما حدث ذلك اليوم.. فلقد أنفقت آخر “مليم” في جيبي في التنقل إلى مبنى البريد لأفاجأ أن حوالتي المصرفية لم تصل بعد كما تعودت. أصبح الوقت متأخراً، وأقرب صديق لي يسكن على بعد أميال عديدة من وسط العاصمة. لقد بدأ الطقس يتحسن. غير أنّي لم أشعر بالانتعاش المفترض بل خمنت وجوده لدى الآخرين فحسب. تذكرت أن بعضاً من الناس يلجأون أحياناً إلى المارة، يطلبون إعانتهم من أجل تدبير ثمن بطاقة الركوب للعودة إلى المنزل.. بعض هؤلاء يكونون سكارى والبعض الآخر فتياناً يانعين عادة.. أذكر أن أحداً مرة أسمعوه ما يكره، وآخر كاد أن يضرب. يا إلهي.. من سيصدق أني أوقعت نفسي في المأزق نفسه؟. لم أجرؤ على اللجوء إلى أحد.. خشيت كثيراً من ردة الفعل، إنها محاولة فاشلة مسبقاً سوف أدعها وأفكر في غيرها. لقد أصابني الإعياء والتعب؛ فخطر لي حينها ما يعانيه أولئك الجياع والضعفاء والمحتاجون من آلام وشدة ضعف، وما أكثر هؤلاء في البلدان الغنية أو الفقيرة على السواء!!.. فهم يقتاتون من المزابل ويعيشون على كسرات الخبز، ويلتحفون العراء فالأرض لهم فراش والسماء غطاء. لكني شعرت أن مصائبنا يجب ألا تكون ذات وجه سلبي لدينا على الدوام فمن رحم الإساءة يمكننا صنع الإحسان، ومن عثرة أوقعتنا أرضاً قد نملك بعدها فرصة حقيقية للصعود إلى قمة الهرم .. رغم آلام السقطة وأوجاعها . فلكل حقيقة وجهان: وجه ناصع وآخر قاتم، كما الحياة والموت، والحزن والفرح، والحب والكراهية. وفي نهاية المطاف تتجلّى الحقيقة في ثنائية مطلقة: ثنائية الخير والشر الكامنين في صدر الإنسان وله الاختيار. وتنقطع خواطري فجأة مع لفحة ريح باردة لامست وجهي فأسال نفسي مجدداً بحرقة: كيف يمكن لغريب مفلس العودة إلى مسكنه قبل انتصاف الليل؟ هذا ما سنعرفه السبت القادم. خبير إعلامي ومدرب # [email protected]