الثقافة العربية في جذورها الأولى تعود إلى عرب الجاهلية بوصفهم التعبير الفولكلوري عن النوع العربي بأحلامه وهواجسه، بأبعاده الحياتية الايجابية والسلبية، برؤاه وأفكاره. وبداية لا بد من إقرار إن العرب لم يكونوا شيئاً واحداً، ولم يمتلكوا ثقافة موحدة حتى نزعم بأنهم صادرون جميعاً من البيان والبديع الموصول بالغنائية. أي نعم.إن البيان والبديع كان وسيلة العرب الحاسمة للتعبير عن حيواتهم وأفكارهم، غير أن ذلك البيان لم يكن متجانساً، ولم يصب كله في خانة واحدة وحيدة كما تذهب بعض الكتابات، فبالقدر الذي تتبعنا فيه تلك الحالات العصبوية الصادرة عن ثقافة الفروسية وشرعة القبيلة، رأينا الحكمة والروية، وبالقدر الذي لامسنا فيه أنصار الصعلكة والتمرد المقرون بالحرية، كان هنالك أيضا أصحاب المشاريع السياسية والفكرية. ظهرت حالات التطير المقرونة بالفخر والعصبية في سماء الثقافة العربية التي مهدت لذات المسار التاريخي، ولقد كان بيان هؤلاء ساطعاً في سماء الإبداع، قليل الحظ في الحكمة، لأن أساس رؤياهم اقترنت بالعصبية الواضحة والتطرف الذي لا يقبل التراجع. يقول شاعرهم متفاخراً: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً تخر له الجبابر ساجدينا ويقول آخر: وإنا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر! ولعمري إننا مازلنا إلى هذا اليوم نعيد إنتاج هذه الثقافة العدمية عندما لا نقبل بأنصاف الحلول، ولا نرى العالم إلا بعدسات عقولنا الضيقة، ولا نقبل بالتنازل من أجل ما هو أكبر وأهم.. ألم يرفض العرب قرار تقسيم فلسطين الأول، كما رفضوا كامب ديفيد الأولى لاحقاً؟! وها نحن الآن ننساق إلى ما هو أدنى بكثير! لذلك فقد تفاخر الشاعر الجاهلي بأنهم لا يؤمنون بالوسطية، فإما أن نكون علية القوم وإما أن نذهب إلى القبر. إنها ذات المحنة التي ساقت جلادي شعوبهم إلى مزابل التاريخ وقبضة الأعداء!