د. عمر عبد العزيز لمعرفة الثقافة العربية في جذورها الأولى لابد من عودة إلى عرب الجاهلية بوصفهم التعبير الفولكلوري عن النوع العربي بأحلامه وهواجسه ، بأبعاده الحياتية الايجابية والسلبية ، برؤاه وأفكاره ، وبداية لابد من إقرار أن العرب لم يكونوا شيئاً واحداً ، ولم يمتلكوا ثقافة موحدة حتى نزعم بأنهم صادرون جميعاً من البيان والبديع الموصول بالغنائية . أي نعم إن البيان والبديع كان وسيلة العرب الحاسمة للتعبير عن حيواتهم وأفكارهم ، غير أن ذلك البيان لم يكن متجانساً ، ولم يصب كله في خانة واحدة ووحيدة كما تذهب بعض الكتابات ، فبالقدر الذي تتبعنا فيه تلك الحالات العصبوية الصادرة عن ثقافة الفروسية وشرعة القبيلة ، رأينا الحكمة والروية ، وبالقدر الذي لامسنا فيه أنصار الصعلكة والتمرد المقرون بالحرية ، كان هنالك أيضا أصحاب المشاريع السياسية والفكرية مما سنأتي عليه . حالات التطيرات المقرونة بالفخر والعصبية كانت ظاهرة في سماء الثقافة العربية التي مهدت لذات المسار التاريخي ، ولقد كان بيان هؤلاء ساطعاً في الإبداع ، قليل الحظ في الحكمة ، لأن أساس رؤياهم اقترنت بالعصبية الواضحة والتطرف الذي لا يقبل التراجع.. يقول أحدهم : ونشرب إن وردنا الماء صحواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً تخر له الجبابر ساجدينا ويقول آخر : وإنا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر ! ولعمري أننا مازلنا إلى هذا اليوم نعيد إنتاج هذه الثقافة العدمية عندما لا نقبل بأنصاف الحلول، ولا نرى العالم إلا بعدسات عقولنا الضيقة ، ولا نعتمد التنازل من أجل ما هو أكبر وأهم .. ألم يرفض العرب قرار تقسيم فلسطين الأول ، كما رفضوا كامب ديفيد الأولى لاحقاً ، وها نحن الآن ننساق إلى ما هو أدنى بكثير !!. لذلك فقد تفاخر الشاعر الجاهلي بأنهم لا يؤمنون بالوسطية ، فإما ان نكون علية القوم وإما أن نذهب إلى القبر ، إنها ذات المحنة التي ساقت جلادي شعوبهم إلى مزابل التاريخ وقبضة الأعداء!.