ما أجمل ما عبّر به الدكتور محمد هيثم الخياط عن واقع المريض المعاصر في غياب تطبيق محترم لهذه الأخلاقيات، فلم يكن غريباً أن يقول الخياط إن الإنسان « أصبح اليوم مجرد شيء .. مجرد آلة تحتاج لإصلاح.. » . وفي الواقع حمل هذا القول دعوة متجددة ودائمة لكل أصحاب المهن الصحية دون استثناء إلى التمسك بالأخلاقيات التي من شأنها ضخ الروح في الممارسات “الآلية “ التي تتعلق بالإنسان والمريض على وجه الخصوص. وخلال عملي في وزارة الصحة ووافداً من خارج إطار المهنة؛ حظيت بمعرفة أطباء كثر يتمتعون بقسط وافر من دماثة الخلق والتواضع المتلازم لصفتهم كأطباء مبدعين ومثقفين. كما إنها كانت مناسبة دققت فيها النظر في ممارسة نماذج صحية أخرى تحفظ ولا يقاس عليها، من الممرضة التي يبدو كأنها تتعمد الخشونة في التعامل مع المرضى إلى الصيدلاني الذي قد يبيع الدواء المنتهي الصلاحية وغيرهما. إلا أن لنا وقفة بسيطة مع نموذجين من الأطباء هما نموذجا الطبيب الممارس والطبيب القيادي. وبقدر ما ندعو أولاً ودائماً إلى إكرام الطبيب واحترامه بقدر ما نطالبه هو نحونا كمرضى بالشيء نفسه، وكم هو طريف أن نعلم أن طبيباً قديراً سقط في امتحان الزمالة في بريطانيا لأن ربطة عنقه فقط لامست جسد مريضة عند فحصه عرضاً دون إذن منه، أو طبيباً آخر شرع في فحص مريضه دون استئذانه ، فذات المريض لها حصانتها وحقوقها التي يجب احترامها . في إحدى المرات رأيت طبيباً في أحد المشافي الكبرى يبدي قرفه من هذا المريض، ويصرخ في وجه آخر ويتصرف بعصبية لافتة للنظر تجاه كل من يقترب محاولاً الحديث معه، وكنت حينها في انتظار مدير المشفى لحاجة، ظننته هو .. فتقدمت منه وسألته : هل أنت فلان ؟ لم يكن بالطبع من أقصده ، لكني لن أصف - ترفعاً - ردة فعله تجاه سؤالي ، والعجيب أني علمت أنه طبيب جراح ولا أدري كيف نأمنه على أجسادنا تحت التخدير والمشرط في يده ؟! نموذج آخر هو الطبيب المدير، والحق يقال إن كثيراً ممن عرفنا كان أكبر حجماً من منصبه، فجمع الحزم وحسن الإدارة في يد وحسن الخلق والتواضع في اليد الأخرى، فكان الواحد منهم مثالاً للطبيب والإداري الناجح الذي لم يفسده وهج المنصب ولا عبء المهام. أما من كان منهم أصغر من حجم الكرسي الذي جلس عليه فقد نفر منه موظفوه قبل غيرهم، وظنّ هو بالأخلاق الحسنة في التعامل ظن السوء ، فكشف لغيره عن خلل خطير يعاني منه كطبيب أولاً تناسى أخلاقيات مهنته، وثانياً كإداري قصّر في اتباع قواعد الإدارة الحديثة القائمة على التواصل المهذب واللائق مع المرؤوسين والمستفيدين من خدمات مؤسسته والزائرين على حد سواء، فهو قد انبرى لخدمة كل هؤلاء بمجرد قبوله منصبه. ويبدو أن مبدأ المصلحة والمنفعة مغلب لدى هذا النموذج عند رسم أسلوب التعامل مع محيطه، وهذا ما يجعله يخسر كثيراً من رصيده لدى الآخرين ولدينا نحن الإعلاميين على وجه الخصوص في الوقت الذي يسعى فيه أغلبنا بقدر الاستطاعة إلى مساندة كل الجهود الخيرة لتنمية أوضاع المجتمع بالنشر والتوعية والمشاركة. إنه لم يعد مسموحاً اليوم في ظل تعقد حياة العصر وتطور أنماط الإدارة؛ التقصير في مدّ جسور التعاون وطلب التأييد من المحيط بشتى أطيافه وتفعيل العلاقات العامة والعودة الحقيقية لأخلاقيات المهن، كما لم يعد مقبولاً التقوقع خلف تمثلات قاصرة أو خاطئة للواقع أو رؤية نرجسية للذات تحجب عن صاحبها ما له من حقوق وما عليه من واجبات .