منذ زمن بعيد،قرأت قصة لكاتب أمريكي بعنوان:«عناقيد الغضب» وكم كان إعجابي شديداً يومذاك بهذا العنوان،فرحت به أشد الفرح،وتمنيت لو كان من اختراعي... كان ذلك أيام الشباب عند تخرجي من كلية الطب بفترة قصيرة، وتمضي الأيام وتكر الأعوام وتزداد الحياة تعقيداً والبال انشغالاً والفكر نضوجاً وتتسع مدارك الإنسان وتتغير قناعاته...فإذا بي لم أعد أرتاح لمسألة العناقيد هذه،كتعبير يرتبط بالغضب،وكل حقبة من الزمان تأتي لترسخ في الذهن نفوراً من هذه التسمية،فما كان يجب أن تربط العناقيد بالغضب،فالعناقيد تعبير شاعري جميل. يذكرنا بالرقة والوداعة التي تحملها عناقيد العنب وعناقيد البلح أو بعقود اللؤلؤ وبالبكتيريا العنقودية التي تتكاثر على ذلك النحو كي تظنها من جنس عناقيد العنب. أما الغضب فلا تناسبه العناقيد،وإنما الذي يليق به أشياء أخرى كثيرة مثل الأعاصير والعواصف والبراكين،ويرتبط اسم الغضب أيضاً بالتخريب والتدمير والمظاهرات على طريقة «المرابيش». وقد اكتشفت منذ زمن بعيد أنني أخشى الغضب ولا أرتاح له أو أثق به،لأنني أعتبره مسؤولاً عن كل أخطائي وعن كل شيء ندمت على فعله. بينما لم أندم على أشياء كثيرة قمت بها بعيداً عن سلطان الغضب إلا فيما ندر. الغضب هو احتياج للنفس،إذا استوى عليها،لا يسمح لها إلا بالهبوط ،مانعاً إياها أن تسمو أو تصعد. الغضب هو موجة اجتياح للنفس،تركض في اجتياحها النفس ركض المجانين ويشبه الغضب في اجتياحه ،جلاميد الصخور ،حرّكتها السيول من أعالي الجبال،إذا أتت على الأشجار أفنتها أو على الزروع أهلكتها. الغضب كالريح العقيم، ماتذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وهو شعلة في القلب يغلي منها الدماغ،فيعقد قدرته على السيطرة وتتراخى منه خيوط التحكم التي تعمل تحت إمرته،وتستجيب لتعليماته وتوجيهاته فإذا تراخت خيوط التحكم والسيطرة،فلاشيء يحول دون الفوضى في عمل الجوارح فيصبح كل شيء معرضها لسطوة الجوارح،هتكاً وتدميراً دون ضوابط!! وتفقد الحواس قدرتها على الانضباط ،فلا العين ترى ماكانت تراه،ولا السمع قادر أن يسمع ماكان يسمعه قبل الغضب،أما اللسان فإنه يتحول إلى آلة فتاكة تقطع الأوصال أو تهتك الأعراض،أشد ضراوة من سكين تقطيع البصل. كوارث الإنسان في معظمها ،يصنعها الغضب:الخلافات الزوجية ،مسائل الطلاق،هدم البيوت،تشريد الأطفال،العراك في الأسواق ،القتل بالجنابي والقتل بالرصاص.. القرارات المتسرعة والفاشلة تبدأ بمكابرة غاضبة،المواقف المتشددة المسئولة عن تعطيل البرامج وفشل المشاريع تغذيها موجات مستترة أو معلنة من اجتياحات غاضبة ،سوء التخطيط،رفض المشورة،العِزَّة بالإثم،كلها أمور يقف الغضب فوق رأس صاحبها كالشيطان الرجيم،مروحاً ومشجعاً وربما مهنئاً كل من وقع في دائرة الغضب أن لايخرج منها إلا خاسراً ونادماً وممقوتاً من نفسه قبل أن يمقته الناس الذين فشلوا في زحزحته عن دائرة عناده. وهناك من الغضب ماهو قابل للسيطرة وما تحمد عقباه ومانتعلم منه العبر وهو الغضب الذي أشار إليه الإمام الشافعي:«من لايغضب فهو حمار» وعندما سمعت الخبر بأن هناك جرعة قادمة في رفع سعر البترول قبل عدة سنوات،طار له لبي ،واصفر وجهي واشتعل الغضب في القلب،ولكنني تداركت الأمر، فلن أسمح له «أي الغضب» أن يصعد إلى الدماغ..قررت ألا أتهادن في الأمر،لأن هذا القرار بالذات يعنيني بشكل خاص،فسيارتي قديمة، من نوع «الصالون» التي تهوى شرب البترول دون رحمة بصاحبها قررت من الفور حبس سيارة الصالون على ذمة التحقيق لأجل غير مسمى وكدت يومذاك أنفرد باصدار إعلان يأخذ ميزة السبق الصحفي،مشاركة مني في التوجيه والترشيد:«ياصالونات العالم اتحدوا» وابحثوا عن وسيلة أخرى غير البنزين،كما فعل اليابانيون في إدخال تجربة رائدة ورائعة في استبدال البنزين بالزيوت المتبقية من المطابخ «الزيوت الحارقة»...فلماذا لا نجرب هذه الزيوت على سياراتنا لكنني تذكرت أولاً أنني لست في اليابان؛حيث المواهب والحاجة أم الاختراع عندهم،وأن اليابانيين عندما عمدوا إلى التفكير في تحريك الآلة بوسيلة أخرى غير البنزين،كانوا منسجمين في ذلك مع عقول مبدعة يملكونها وملكات خلاقة تؤهلهم أن يتألقوا في سماء الابتكار والاكتشاف،فليسوا مثلنا!!ولسنا مثلهم في هذه الميادين!! مازلت أذكر نصيحة أستاذي القدير في الابتدائية:كان يقول لنا:«لايجب على الإنسان أن يسلم نفسه للغضب،لأنه إن فعل ذلك فليس له رأي..» تذكرت هذا المعنى قبل سنوات عندما ترامت إلى أسماعنا أنباء المظاهرات التي تزامنت مع ارتفاع البنزين حيث أخذ المتظاهرون،يعتدون على المحالات التجارية ويكسرون ويحطمون وهم في حالة كاسحة من حالات الغضب المدمر،الذي لايبقي ولا يذر...والسؤال الذي يفرض نفسه:هل لا بد للمظاهرات أن تكون مجنونة؟؟!...والذين يحركون هذه المظاهرات هل هم جماعة من العقلاء؟!. ....العبرة بالنتيجة طبعاً،فقد رأينا مظاهرات عاقلة في كل أنحاء العالم وحكم الناس على أصحابها بأنهم عقلاء...هدفهم واضح ،قضيتهم واضحة، فاستطاعوا بذلك أن يكسبوا عطف الناس واحترامهم، فحققوا غرضهم وانتصرت قضيتهم،ورأينا مظاهرات مجنونة،صنعها المجانين وقادها «المرابيش» واستولى عليها الحاقدون والمغرضون فأخرجوها عن أي هدف نبيل، فلم تحقق شيئاً سوى تعقيد القضية وتمييع الهدف،ولم ينتج عنها سوى إزهاق أرواح الأبرياء والإضرار بمصالح الناس في نهب الممتلكات وإشاعة الفوضى في البلاد وتعميق الكراهية في النفوس.