في سياق إضعاف المؤسسات التربوية التعليمية، بعامة والمؤسسات المعنية بتنمية الموارد البشرية بخاصة، يلجأ الساعون إلى ذلك إلى إفراغ هذه المؤسسات من خبراتها وقدراتها البشرية التي تمتلك رصيداً ضخماً وتجربة واسعة في مضمار عمل هذه المؤسسات، وبمايجعلها غير قادرة على النهوض بمهامها على نحو تحقيق الأهداف المأمولة، والأغراض التي أنشئت لأجلها، حيث إن غياب الكتاب، وغياب الموارد والتقنيات وحتى المبنى لايؤدي إلى غياب العملية التعليمية إذا كان المعلم حاضراً وإن كان ذلك الغياب سيشكل ضغطاً على المعلم ويجعل مهمته صعبة وبمايتطلب منه جهداً مضاعفاً لإيصال المعرفة والخبرة والمهارات التي يريد ايصالها إلى التلاميذ أو الطلبة، وغرسها في نفوسهم وعقولهم، وبالمقابل فإن غياب المعلم، وحضور الأمور الأخرى، لايجعل العملية التعليمية التعلمية حاضرة، وقادرة على البلوغ إلى غاياتها في إعداد الانسان المؤهل القادر على تحمل المسئولية والاسهام بدور فاعل ومنتج في حركة المجتمع والتنمية. من هنا اهتمت الكتابات التربوية المتصلة بالمناهج وطرائق التدريس بما سمته «المنهاج الخفي» وقصد به المعلم، فالمعلم في قاعة الدرس هو السلطان والمتحكم بالمادة التي يقدمها للدارسين، ووحده فقط من يتحمل المسئولية بنقل محتوى المنهاج، وتفسيره وشرحه وجعله واضحاً للدارسين ويمكنهم من استيعابه والتعاطي معه قراءة وتحليلاً واختباراً ومن ثم تمثل ماحمله من قيم ودلالات علمية وثقافية ومعرفية ترتقي بإدائه ومسلكه بتلاقحها مع مايتلقاه الدارس من خبرات ومعارف ومهارات من البيئة المحيطة، حيث يعرف علماء التربية في جانب المناهج، ان المنهاج هو مجموع الخبرات التي يتلقاها الطالب داخل المدرسة وخارجها. إذا كان هذا هو موقع المعلم في مراحل التعليم العام فهو يتموضع على مكانة مهمة في التعليم العالي والجامعي، لاعتباره تعليماً تخصصياً وفي سنواته الدراسية، يعد الدارس لمهنة معينة ولمعارف ومهارات غاية في التجدد والمواكبة للمتغيرات المشاركة في المعرفة والتقنية وأدوات ومتطلبات التنمية والسوق، فضلاً عن ذلك فعضو هيئة التدريس يعنى بالبحث العلمي، وخدمة المجتمع، اتصالاً بترجمة وظائف الجامعة وأهدافها.. ومن ثم فإن الخبرة والمخزون المعرفي والاكاديمي الممتد إلى تجربة عميقة وطويلة، اساسية ومهمة ولازمة بعضو هيئة التدريس، ولذلك جاء سلم الترقي قائماً على هذا الأمر وهكذا كلما ارتقى الاستاذ الجامعي بسلم الترقية، كلما اكتسب مكانة أكثر أهمية بين زملائه في الوسط الاكاديمي لاكتسابه أرضية أكثر عمقاً وثباتاً في التخصص وبمايجعله مرجعية يعتمد عليه في البحث العلمي وفي تحكيم الانتاج العلمي الاكاديمي لزملائه الأقل درجة علمية، فضلاً عن الركون إليه في تنفيذ برامج الدراسات العليا والإشراف والمناقشة. وتأسيساً على ذلك تتباهى الجامعات برصيدها من الاساتذة ذوي الالقاب العلمية الرفيعة، وبإنتاجهم العلمي والمعرفي والاكاديمي تزهو وتتبادله مع غيرها من الجامعات ومراكز البحث العلمي في المعمورة وبهذا الرصيد تصنف الجامعات وتحظى وفقاً لماتملكه من رصيد بشري عالي التأهيل وواسع الخبرة، ودقيق في الأداء ومنتمٍ في سلوكه الاكاديمي، باحترام وثقة بمخرجاتها، وعلى هذا النحو من الاهمية يمنح الاستاذ الجامعي فرصة كبيرة في نقل خبراته لزملاء المهنة، والمتعاملين معها، والمجالات المتصلة باختصاصه، ويبقى في عطائه مادام قادراً على العطاء، ويتحول كلما تقدم به السن والخبرة إلى خبير ومستشار وقائد لمسيرة البحث والتطوير والارتقاء بأداء المؤسسات التي يعمل بها وتلك التي يعمل في مضمارها. ووفقاً لهذه الأهمية،وجدنا معظم الأنظمة الجامعية تعتمد معيار السن الذي يبلغه عضو هيئة التدريس معياراً لانتقاله إلى التقاعد إذا رغب في ذلك، وكانت ظروفه الصحية وقدرته الجسمية والعقلية تساعده على الاستمرار في العطاء على نحو مفيد، ومن هنا وليس هناك من نظام تقاعدي موحد، في كل جامعات الدنيا، وإن كان السن هو المعتمد ولكنها تختلف في التحديد الزمني وربطه بسن محدد حيث وضع البعض سن الستين، وآخر سن السبعين، وغيرهم أنيط الأمر بعضو هيئة التدريس حرية التحديد والطلب وفقاً لتقديراته المنطلقة من معرفته بحالته الصحية وطاقته في الأداء.. بل إننا نجد أن الاساتذة الذين بلغوا درايات وسعة في الخبرة والأداء العلمي والأكاديمي، يعملون في أكثر من جامعة، وينتقلون بين جامعة وأخرى أساتذة زائرين، ونسبة عالية منهم في أعمار متقدمة، طلباً لخبراتهم وطمعاً في مخزونهم العلمي، الأكاديمي ومع أن بعضهم يحال أو يحيل نفسه للتقاعد إلا أنه يظل صوتاً مدوياً ومطلوباً الاستماع إليه والاستفادة من خبراته من خلال تنظيم محاضرات متفرقة بين الحين والآخر، أو في الاعتماد عليه في برامج الدراسات العليا. كل ذلك يجري في الجامعات ذات العمق التاريخي الطويل في الظهور والتكون والممارسة، والتي أضحت تركن إلى عدد كبير وهائل من الاساتذة في مختلف الاختصاصات، ولكنها لاتتنكر لخبرات من يتقادم به السن، فما بالك في الجامعات الأحدث التي ماتزال تحبو وتخطو خطواتها الأولى في المسيرة الطويلة التي تنتظرها، ومتطلبات التأسيس لسمعة علمية، ومصداقية أكاديمية، وحضور مجتمعي، وإسهام واضح في حركة التنمية، وهي متطلبات لازمة وضرورية لبقاء الجامعة واستمرارها،والتي لايمكن تحقيقها بعيداً عن نخبة متميزة من الاساتذة بمواقع علمية متميزة، وخبرات تخصصية موثوق بها من قبل المجتمع ومؤسساته الرسمية والشعبية.. ولذلك ينبغي على الجامعات الاحتفاظ بأساتذتها وتمكينهم من الارتقاء بخبراتهم لتوفير الفرص المتتالية لهم لتطوير قدراتهم واكتساب معارف وخبرات ومهارات جديدة بالاحتكاك بالغير، والمشاركات العلمية مع المجتمعات الأكاديمية والمهنية المتخصصة، وبما يؤدي إلى تطور واضح في ادائه وارتقاء واضح في طرائقه وأساليبه التدريسية، والبحثية،ورؤاه في خدمة التنمية والمجتمع. وحين يحدث العكس، تكون المؤشرات دالة على تفريط واضح بالحاضر والمستقبل، ورفض واضح للخبرة ودورها، لأنها ستكون أي الجامعات طاردة للخبرة كلما بلغ عضو هيئة التدريس سن التقاعد المحدد بسنوات العمل التي تمتد بالأصل إلى سنوات تشمل سنوات الدراسة والتأهيل، والتي تتلازم بارتباط شرطي ببلوغه سن الستين عاماً، وهذا الوضع غير المستقيم مع امكانيات الدولة وقدراتها الاقتصادية يجعل سنوات العطاء عند عضو هيئة التدريس محدودة من ناحية،وخروجه إلى التقاعد قبل أن يبلغ أجل الخدمة من ناحية ثانية. هذه الحالة هي الحالة التي تعيشها الجامعات في بلادنا اليوم تحت طرقات مطرقة الخدمة المدنية التي استجابت لمتطلبات لم تكن حاجة الجامعات واحدة منها ولامصلحة التنمية، ولامصلحة أبنائنا ومستقبلهم الذي هو مستقبل البلاد.. فالمعروف أن الجامعات اليمنية في مجملها حديثة النشأة،وأنها لم تتمكن إلى اللحظة من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي بالاساتذة اليمنيين في كثير من الاختصاصات وهذا وفق المؤشرات الاحصائية الصادرة عن الحكومة.. ناهيكم عن الاعلان المتكرر من وقت لآخر عن التوسع بالتعليم الجامعي، وانشاء جامعات جديدة.. فهل يعشق البعض الجامعات حديثة النشأة،وحديثة التجربة وخبرة متواضعة وغير ممتدة.. وهل يرغب هؤلاء برؤية الجامعات اليمنية وهي خالية من خبراتها، أم أنهم يعشقون من جانب آخر استمرار النزيف المادي المالي لخزينة الدولة، في اعتماد موازنات اضافية لمواجهة حاجة الجامعات للتعاقد.. إما مع المحالين للتقاعد كما يجري حالياً، أو باستقدام خبرات من خارج الوطن، مع تأكيدنا على أهمية استقدام خبرات شقيقة لأغراض الاحتكاك والاستفادة من تجاربها،وتوثيق عرى الاخوة، وأواصر القربى. فإحالة اعضاء هيئة التدريس للتقاعد لغز سره عند أهل الزينة مع أن الفائدة المباشرة مادياً قد تكون لصالح عضو هيئة التدريس والذي ستتاح له أكثر من فرصة ومنها: 1 ابرام عقد مع جامعته. 2 ألالتحاق بجامعة أهلية. 3 الهجرة. 4 العمل مع القطاع الخاص. وغير ذلك، وقد يجمع في وقت واحد بين أكثر من فرصة لأنه في حالة التقاعد غير ملتزم بنظام العمل بالجامعات وبالمقابل فإن الخاسر الوحيد هو اليمن وجامعاتنا ومستقبل أجيالنا، فهل يعي المعنيون هذا أم أنهم يعملون لأجل تحقيقه والله من وراء القصد.