قال عنه معلمه بأنه " أسد المعرفة " وأضاف مخاطباً جلال الدين الرومي : أنا أسد نفسي وأنت أسد المعرفة ولا تحتاج لي " .. تلك الإشارة كانت بداية عتبة جديدة في حياة الرومي، ودلالة مؤكدة على موسوعيته المعرفية، فقد عرف عنه إلمامه باللغات والعلوم والموسيقى والآداب، وقد انسابت تلك المعارف في نصوصه الشعرية والنثرية التي تواترت بسخاء مدهش. تالياً وتعبيراً عن ثنائيات الوجود كرديفة للمعنى الذي تأصل في مفهومه، ووضعه على درب " المثنوية " التي يلخصها في " ثنائية المعاني"، كان لقاؤه اللاحق بشمس الدين التبريزي، ذلك اللقاء الذي كان وعداً وإشارة نبوئية من معلمه . تكررت متوالية الثنائيات على نحو غرائبي غيبي وإشاري، فقد انتقلت ثنائية الصداقة بين والد الرومي وأستاذه، إلى ثنائية علاقة بين الرومي والتبريزي، وكانت ثمرة العلاقة الأولى نبوغ الرومي بوصفه عالماً موسوعياً، والثانية ولادة الرومي الشاعر المطبوع والمنخطف بموسيقى الوجود. آية ذلك أنه أول متصوف " أشعر الموسيقى وموسق الشعر"، فأدخل الموسيقى في قلب الشعر، والشعر في الحركة المدوْزنة بموسيقى الوجود، تعبيراُ عن موسيقى الحياة وترميزها للحق . الرقصة المولوية الموروثة عن جلال الدين الرومي مقرونة بالتطهر والتخلص من الأدران، فقد كان الرومي يدور حتى ينتحب، وهو في دورانه يعيد إنتاج الحقيقة الأزلية للعوالم الدائرية التي جاءت بأمر من الحق يوم أن قال كلمته فأصبح الرتق فتقاً، ونشأت المعادلات الكونية المحركة للأجرام والنجوم والشموس والأقمار، وتوالت تلك الحركة لتشمل كل أنواع الحيوات والتجليات، فالكل يعيش الحالة جبراً لا خياراً، ومن تمثّلها وأدرك كُنهها أصبح الجبر والخيار لديه صنواناً، فلا جبر ولاخيار، بل تماه تام مع الحق . يقول الصوفي: لا لأني أهواك أُكثر ذكراك ولكن بذاك يجري لساني وهكذا تعيد لدائرة المولوية إنتاج نفسها ضمن تصاعد معنوي يتصل بموسيقى الوجود.