تلقى جلال الدين الرومي تعليمه عبر المشافهة أولاً، وهذا النوع من التلقي يتصل بما يتجاوز الكلام إلى الإشارات، ولقد كان ديدن المُتنكبين لمشقة المعرفة أن يجاوروا عالماً، وأن يتلقوا منه مباشرة، وفي هذا النوع من التلقي درجة أكبر من الحساسية الثقافية، ودرجات أسمى من الاتصالات غير اللفظية " الإشارية ، التعبيرية ، الصوتية "، وكانت كل تلك الاتصالات تعزز المعرفة وتجذرها، ولهذا السبب قيل إن الرومي لم يكن يكتب شعره الغزير، بل كان يرسله إرسالاً شفاهياً وهو في لحظات استدعاء وغوص، وكان المدونون يكتبون مايقوله ويراجعونه فيما قال بعد ذلك، وبهذه الوسيلة الشفاهية كتب " المثنوي " الذي اتسع ل 25649 بيتاً، وديوان " شمس تبريز" الذي اتسع ل 36023 بيتاً، بالإضافة إلى 176 رباعية، كما اشتمل على نصوص شعرية باللغات التركية والرومية مما يشير إلى تعدد ثقافة الرومي، وإلى ذلك له كتابان نثريان هامان هما " فيه مافيه " و "المجالس السبعة" . يعتبر كتاب " المثنوي " كتاب شعر وموسيقى في آن واحد، وهذا يدلل على تلقائية شعرية مموسقة لدى الرومي، ويفسر في بُعد ما ابتكاره المُمْعن للمولوية الموروثة حتى إنه يمكننا القول بأن الرومي كان نموذجاً أقصى للشخصية العمودية الأُفقية في آن واحد، فقد كان متفرداً ، واسع الاطلاع ، مُتسعاً، متعدداً ، شمولي النظرة ، وتفصيلياً أيضاً . عندما نصف الرومي بأنه كان شخصية عمودية فانما نقصد استغراقه الكبير في التفاصيل وقدرته الاستثنائية على إعادة إنتاج مرئياته بطريقة شاقة باحثة ومستغورة، وعندما نصفه بالشخصية الأفقية فإنما نقصد سعة صدره، وتجاوزه المنطقي والسلوكي للتعصُّب أياً كان نوعه، ودعوته لنظرية الحب الإلهي التي تمنح البشرية الحياة الحقيقية. تلك المثابة جعلت من الرومي قابلاً لكل الصور، مبرراً للظواهر وإن تباعدت عن قناعاته، رائياً لما وراء الآكام والهضاب مما لا يقدر عليه إلا أصحاب الهمم الكبيرة .