الأصل في تاريخ التدوين نابع من النص الشفاهي، بل إن اللغة المكتوبة ليست إلا ترجماناً مؤكداً لتلك الأصوات الصادرة عن البشر والتي خاضت معترك التطور البيولوجي والتاريخي لكي تتحول تباعاً إلى لغات متعددة كما نرى الآن في كل العالم . الكتابة بهذا المعنى ترجمة مؤكدة لتلك الدلالات الصوتية المقرونة بدلالات قاموسية، حتى إن الحرف المكتوب بوصفه تشكيلاً ليس إلا صوتاً تواضع متابعوه على أن يأخذ شكلاً محدداً، وفي علوم الألسنيات الحديثة الكثير من المعارف المتعلقة بالعلاقة بين اللغة والصوت، وقد تواضع علماء الألسنيات على أن اللغة المكتوبة عبارة عن خوارزميات تشكيلية تستقي أبعادها الكتابية من الصوت المنطوق، وبهذا المعنى يحدث نوع من التراسل المنطقي الشكلي بين اللغة بوصفها صوتاً، واللغة بوصفها كتابة. من هذا المنطلق الأساسي يمكننا الإقرار بأن النص الشفاهي سابق على النص المكتوب، والدليل القاطع المانع والماثل إلى يومنا هذا سنلاحظه في تلك اللغات التي مازالت شفاهية ولا تُكتب كما هو الحال بالنسبة لعديد اللغات واللهجات الأفريكانية والآسيوية. وهذه دلالة واضحة على أسبقية المُشافهة على الكتابة . على المستوى التاريخي كانت الآداب الشفاهية تُمثل حالة مركزية في انتقال المعارف من فرد لآخر، وفي تاريخنا الخاص سنجد أن فقه التدوين الكتابي للمعارف كان مقروناً بالتلقي الشفاهي للمعرفة، وقد تكرّس هذا التقليد من خلال المدارس والجامعات التي مازالت تحرص إلى يومنا هذا على أن يكون الأستاذ المدرس وسيلة أساسية في نقل المعرفة . في الآداب السردية التاريخية سنجد أن “الحكي” شكّل نقطة مركزية في تلك الآداب، وكلنا يعرف حكايات الجدات التي كانت تمثل قيمة ثقافية وتربوية ساهمت إلى حد كبير في تنمية الخيال والإدراك، ومعرفة أحوال الوجود وأساطير التاريخ. [email protected]