هذه ليست هي القرية التي نعرفها ،فكل مافيها اليوم صار يتعارض مع الملامح والصفات الحقيقية للقرية؛ إذ لم يبق من شموخها إلا جبالها العارية،وشعابها الجرداء أو وديانها الكئيبة أما إنسان القرية فقد انقرض،لم يبق منه إلا كائن شبح ،لا هو قروي ولا هو مدني. صار الناس في القرى يسهرون كما يسهر أهل المدن أمام شاشة التلفاز،يتابعون المسلسلات الهابطة والبرامج التافهة حتى وقت السحر،لكي ينهضوا بعد ذلك كسالى،مقهورين،نادمين مكتئبين ،يلقون بأجسادهم في السرير أو في «الدكة» أو يفترشون الأرض،لاينهضون إلا ظهراً أو عصراً.. ينهضون يبحثون عن القات لكي يواصلوا المسيرة في يومهم الجديد،متجاهلين بذلك صوت الفجر الذي تردده الأيام وهي تحث الإنسان على الاستيقاظ مبكراً:«يابن آدم أنا يوم جديد،وعلى عملك شهيد، فإذا ذهبت لا أعود حتى قيام الساعة». لكن الإنسان لايسمع النداء ولا يريد أن يتعظ ،إنه صورة طبق الأصل للإنسان المتسيب في المدينة،مخصوم من الصورة أي ملامح أو مظاهر قد يتميز بها الإنسان في المدينة،حتى وإن كان متسيباً إلا أنه في أحيان كثيرة يؤدي عملاً ما،فقد يكون موظفاً،أو صاحب حرفة أو بائعاً متجولاً،أو ربما متسولاً! أما الذين في القرى،فإنهم عاطلون بدون وظائف ولا حرف وليس لديهم ما يشغلهم سوى النوم في النهار والسهر في الليل،بينما الأرض هناك مهجورة لا تجد من يعتني بها ولا من يوليها أي قدر من الاهتمام،بحجة أن تكاليف خدمتها تفوق قيمة عائداتها من الربح..فالمسألة - إذاً - صارت تحسب بعقلية الربح والخسارة وليست بعقلية الشعور بالانتماء للأرض التي إن تركت خربت..مع أن الأرض تعطي أكثر مما تأخذ،فإن خدمها الإنسان «قيراطاً» أعطته أربعاً وعشرين قيراطاً..مضافاً إلى ذلك جمال وسحر وشعور بالأمان بالله عليكم..يامن تسهرون الليالي وتنامون النهار..ماذا حقق لكم السهر من أرباح؟! وماذا حققتم من فوائد النوم في النهار؟!..إنكم تأكلون الدجاج محنطاً، وقد كان بإمكانكم تربية الدواجن وأكل لحومها «طازجاً» ..إنكم تشربون حليباً مجففاً وقد كان بإمكانكم أن تشربوا لبناً سائغاً طازجاً من ضروع الأبقار والأغنام.. ذلك بإمكانكم والله..وليس ذلك بالأمر المستحيل..فقط حاولوا أن تعيدوا النظر في تنظيم أوقاتكم، لكي تحل الأرض في أذهانكم وتفكيركم محل السهر في متابعة الفضائيات.