في عمود «جازع طريق» بهذه الصحيفة المنشور الخميس قبل الماضي العدد «01141» كتب الدكتور/عبدالقادر مغلس مقالاً بعنوان أغنياء وفقراء «قضية للنقاش» موضوع المقال يستحق فعلاً أن يكون قضية قابلة للنقاش ولاشك أن الآراء سوف تتباين وتتعدد الروئ ولأن المساحة محدودة فلن أتناول مواضع الاتفاق مع الدكتور مغلس وهي كثيرة مقارنة بمواضع الاختلاف وهي قليلة على أية حال..لكنني سأكتفي أن أطرح وجهة نظري دون أن أتعرض لمواطن الاتفاق أو الاختلاف. في ظني أن هناك أغنياء ليس لهم وجود ولا توجد لهم بصمات على ساحات الخير ولا على صعيد الأعمال الإنسانية ولا على التوجهات التي تعنى بمشاكل الفقر والبطالة أو تعنى بهموم الناس وبؤسهم وتعاستهم.. إنك لاتراهم إلاَّ من خلال عماراتهم ومؤسساتهم ومجمعاتهم السكنية والتجارية ومن خلال «الأحواش» العملاقة التي تتكدس فيها مواد البناء مثل الأخشاب والحديد والبضائع المختلفة في المعارض والمخازن..فإذا سأل سائل من الناس عن أصحاب هذه الممتلكات، لايجاب إلاّ إذا أراد شراء سلعة، حينذاك فقط يجد من يقتاده إلى مكتب وكيل التاجر أو عامله..لهم صولات وجولات في عقد الصفقات وحيازة الامتيازات..يسمع الناس عنهم ولايرونهم.. كما لو كانوا قد هبطوا علينا من المريخ بدون بدايات ولامقدمات ولا معانات أو أي شكل من أشكال التدرج في الصعود من بداية السلم كماهو حال رجال الأعمال الذين بدأوا من الصغر، فأخذوا يتقدمون خطوة خطوة ودرجة درجة حتى وصلوا إلى ماوصلوا إليه بفضل توفيق من الله ثم جهدهم.. أما أغنياء «الطفرة» فقد بدأوا من فوق من أعلى درجة في السلم وبقوا يتهيئون كيف يطيرون في السماء فجاءتهم مشكلة الريش،كيف يستنبتون ريش نسر يحلق بهم في السماء.. وكما هو معروف فإن الفارق كبير بين ريش صنعته عناية السماء بمقتضى النواميس والسنن والفطرة السليمة ومن يريد استنبات ريش دون اعتبار للنواميس والسنن ومع ذلك فليس المهم عندنا كيف صعدوا ولا كيف طفوا؟! وإنما المهم هو كيف يهبطون من بروجهم ليلتقوا بالناس ويتواضعوا قليلاً، يتلمسون هموم الناس وحاجاتهم لكي يوظفوا مابأيديهم من مال في إنشاء مشاريع استثمارية متنوعة تساعد على امتصاص البطالة وإيجاد حلول لمشكلة الفقر في بلادنا...هل نتفائل بأنهم قادمون؟ وعندما ينصت الواحد منا لكلام الناس وتعليقاتهم يصاب بالصداع والدوار، خصوصاً عندما يتحدثون عن بعض تجار «الطفرة» يتحدثون عنهم كما لو كانوا طائفة من الجان يروننا ولانراهم بأنهم يودعون أموالهم في البنوك الأوروبية مؤكدين أن هذه الأموال قد حصلوا عليها من صفقات ومشاريع أو بيع عقارات وأراضٍ شاسعة كانت تكفي لو استثمرت أو وظفت داخل البلاد أن تنقذ أسراً كثيرة من الجوع والفقر والمهانة لكنهم بدلاً من استثمارها في البلاد، هربوها خارج البلاد لكي يستفيد من استثمارها في البنوك اليهود والنصارى خلافاً لماهو عليه رجال الأعمال الذين تدرجوا في الصعود، حيث كانت حياتهم في البداية حياة معانات ومكابدات، حياة كانت كلها جهاد وكفاح منذ أيام الاحتلال الانجليزي لجنوب الوطن وكانوا يتعرضون للعسف وعدم القبول بوجودهم كمنافسين للجاليات الأجنبية التي كان يرعاها الانجليز ويدعمها ويمنحها الامتيازات وكان معظمهم من الهنود والإيرانيين والأفارقة وبعض الصوماليين..كان الهنود بصفة خاصة يجدون الحظوة والتشجيع من الانجليز، مقابل أن يجد اليمنيون الوافدون شمال الوطن المضايقات وعدم الترحيب فلما جاء الحكم الوطني نكل بالجميع لم يميز بين هندي ويمني مساواة لهم في الفقر وانتزاع ممتلكاتهم بحجة أنهم حصلوا عليها كأرباح من عمليات البيع والشراء وهذا لايقره الفكر الماركسي ولايرضى عنه ولايزكيه فهو استغلال بشع للإنسان حسب المقولة الماركسية فلابد أن تتوقف التجارة ويختفي التجار من الساحة لكي تقوم الدولة بواجباتها في خدمة المواطن في المجال التجاري والزراعي وما إن اضطلعت الدولة بواجباتها نحو الوطن والمواطن حتى أماتت كل شيء في فترة قصيرة جعلت الدولة تعيش فترة مخاض ملتهبة واجهت فيها عدن شتى أنواع المخاطر بسبب الصراعات الدامية العنيفة بين قيادات وطنية كانت تفتقر إلى العلم والخبرة كما تفتقر إلى وجود قدوة تقتدي به يملك رؤية معتدلة أو منهجاً سليماً أو حكمة بليغة أو عقلاً راجحاً كما كانت تلك القيادات تفتقر إلى النموذج الذي تحاكيه أو تضعه نبراساً تهتدي بضيائه فأخذت تتأرجح أو تتخبط بين نظريات لينين وماوتسي تونج وتشاوتشيسكو أو بين جيفارا وفيدل كاسترو وغيرهم لم يكن لدى تلك القيادات أدنى ثقافة إسلامية فتعاملت مع الإسلام كما لو كان عنصراً غريباً مشبوهاً فناصبته العداء واتخذت منه حجة للتنكيل باليمنيين على حد سواء..كانت تريد أن تقتلع الإسلام من المحافظات التي تسيطر عليها، فكانت غلطة العمر دفعت ثمنها غالياً، لكن الله أراد لها السلامة فجاءت الوحدة لتكون وجاءاً وحصناً ومكسباً لكل اليمنيين في جنوباليمن وشماله. عاد الهنود إلى بلادهم، حيث هيأت لهم حكومتهم كل أسباب النجاح في استعادة ثقتهم بأنفسهم وتعويض مافقدوه في عدن في ظل الحكم الوطني، وعاد اليمنيون من عدن إلى المحافظات الشمالية، ولم تكن الأمور مهيأة لهم في تلك الآونة وكان يلزمهم أن يبدأوا من جديد في إقامة أنشطة تجارية على قدر إمكانياتهم وعلى قدر إمكانية بلد يحيط به الجهل ويكتنفه التخلف ويفتقر إلى أبسط الوسائل لممارسة تجارة ناجحة..فأين هي الأسواق؟ وأين هي المحلات وأين الطرقات التي تيسر الانتقال ليس من مدينة إلى مدنية، بل داخل المدينة نفسها وأين هي الكوادر المؤهلة والكفؤة التي يمكن الاستعانة بها في تسيير الحركة التجارية ومع ذلك فقد استطاع هؤلاء الجماعة من التجار المستثمرين والمستنيرين أن يصمدوا ويتصابروا.. استطاعوا أن يواجهوا تعنت المتعنتين وأن يصمدوا أمام أذى الحاقدين والمغتاظين والفاشلين حتى استطاعوا أن يصلوا إلى أول درجة في سلم الرقي التجاري فأخذوا يصعدونه درجة درجة حتى بلغوا ماأراد لهم الله أن يبلغوه والذي ساعدهم أن يبلغوا مابلغوه اليوم من رقي تجاري وصناعي هو أنهم ساروا في خطين متوازيين: أعمالهم التجارية ومصالحهم الذاتية التي تسير في اتجاه المشاركة في بناء التنمية والاقتصاد تتوازى مع الخط الآخر الذي يمثل الجوانب الخيرية في مساعدة المحتاجين والنهوض بأحوال الفقراء من خلال المقررات الشهرية للأسر الفقيرة ثم المخصصات السنوية في شهر رمضان الكريم..ليس هذا وحسب ولكنهم ينفقون أيضاً مقابل المشاركة في معالجة المرضى داخل اليمن وخارجها، يتحملون تكاليف اجراء عمليات جراحية..هناك عدد كبير من الأسر تعيش على المعاشات الشهرية التي يستلمها العمال والموظفون الذين يعملون لديهم في المصانع والشركات والمكاتب..إنهم يتوسعون في مشاريعهم وكلما فعلوا ذلك عم الخير الكثيرين ممن ينتظرون وظيفة فلا يجدونها ويطلبون عملاً فلا يعثرون عليه .. والسؤال هو: لماذا هذا التفصيل وذكر هذه التفاصيل كلها؟ والجواب هو أن مقال الدكتور عبدالقادر قد وضع قضية للنقاش عنوانها «أغنياء وفقراء»..لذلك فقد لزم أن نكون أمناء في طرح مانعرفه عن الآخرين فقد يعذر الإنسان عندما يلتزم الصمت حيال أشياء لايعلم عنها شيئاً، لكن ماعذره إذا كان يعلم شيئاً ولايريد أن يفصح عنه، أليس ذلك بمثابة خيانة للحقيقة..؟ هذا العرض أنا لا أعتبره طويلاً مفصلاً، بل أعتبره مقتضباً قياساً لما أعلمه عن هذه المجموعة الممتازة من أهل اليسر الذين شقوا طريقهم بصعوبة لكي يصلوا إلى ماوصلوا إليه.. إنهم لايخفون على الناس.. بل يعرفهم الناس واحداً واحداً وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أودع في قلوبنا محبة الاعتراف لأهل الخير بجمائلهم على الناس وأودع في قلوب الكثيرين ممن يعترفون بالجميل محبة أهل الخير وتقديرهم مقابل كل معروفهم وفضائلهم، فإن هناك من الناس من لايريد أن يعترف بالجميل إلاَّ لنفسه فقط، ليس ذلك وحسب ولكن هناك من يحقد أشد الحقد على كل فضيلة أو معروف يراه أو يسمع عنه..وكم هي الأمراض النفسية كثيرة وفادحة في بلادنا، فلا بد من معالجتها بحسن التوجيه وحسن الخطاب وتقديم المساعدة لذوي الحاجة ولمن يعاني مثل هذه الأمراض.. كل ماذكرناه في هذا السرد المختصر يصلح أن يكون بداية لما نريد توضيحه.. هناك من الأغنياء عبر د.مغلس عن دورهم في المشاركة بالقول:« ليس من أخلاقيات اليمنيين وعقيدتهم وشريعتهم أن يظل الأغنياء يمارسون دور المتفرج لكل مايدور في البلد من تدهور مريع في منظومة القيم الاجتماعية..». كما يؤكد الدكتور مغلس «أن هناك رؤوس أموال كثيرة تستثمر في البلد، لكنها شبه غائبة في ميدان مكافحة الفقر». أما بالنسبة لدور رجال الدين في مساعدة الناس في مواجهة الغلاء فهو دور خافت، كما هو دورهم خافت أيضاً في كل شئون الحياة ولكن هذه مسألة شائكة تحتاج إلى حسن نظر ولباقة في الحديث وقدرة على الحوار وليس الجدل، حتى لايفسد الأمر بيننا وبين هذه الجبهة المستنيرة من العلماء التي إن قالت سمع الناس لها وإن فعلت اقتدى الناس بفعلها.. وقد قالت الكثير ولكن مازال هناك الكثير لم تقله.. هناك إمكانيات عظيمة تمتلكها بلادنا وكل الذي نحتاجه هو تنظيم هذه الامكانيات والتفاف كل القوى الفاعلة حولها..لن يحل مشكلة الفقر في بلادنا صرف الأموال للفقراء والمساكين مهما بلغت قيمة هذه الأموال بالمليارات أو مابعدها بل ستصبح هذه الأموال التي ننفقها بحجة إعانات ودعم للفقراء، عبئاً ثقيلاً على الدولة تنوء بحمله ليس على المدى الطويل، بل على المدى القصير والمتوسط..كما أن هذه الأموال التي ينفقها أهل الخير والمؤسسات الخيرية بصورة منتظمة على الفقراء والمساكين، كمواساة ودعم لهم سوف تشكل أيضاً أعباء متراكمة عليهم إذا لم نستطع إيجاد مخارج للفقر تسمح بتقليصه وإيقاف نموه وانتشاره أو استفحاله عن طريق وضع خطة علمية مبنية على الدراسة والبحث تشارك في وضعها وصياغتها عدة جهات يأتي في مقدمتها الدولة بكل أجهزتها وتشارك فيها الجامعة والقطاع الخاص بكل أنواعه ودرجاته وأطيافه.. مفاد هذه الخطة تأهيل المجتمع وإعداده أن يكسب قوته بجهده وعرقه ، أن تستخدم كل امكانات الإنسان وقدراته العقلية والنفسية والبدنية في أن ينفق على نفسه ويعول أسرته ويشارك في هموم المجتمع من أجل أن يحلها وليس من أجل أن يشكل هماً إضافياً على المجتمع، وشكراً للدكتور عبدالقادر مغلس أن أتاح لي هذه المشاركة.