لليمن تاريخ بطعم البن ونكهته، وللتاريخ محطات يستقبل فيها زواره من باحثين وقراء ومهتمين بكؤوس من قهوة البن اليمني الأصيل الذي ذاع صيته واشتهر، وأعطى من شهرته هذه للأرض والإنسان مالا ينساه التاريخ.. بهذا السمو والكرم ظل التاريخ اليمني يستقبل زواره إلى أن حدث ما لم يكن في حسبانه أن يحدث، حيث تراجعت مساحة جغرافيا البن إلى درجة لم يجد معها التاريخ المعاصر ما يكفي للضيافة المعهودة.. حدث هذا التراجع إلى حد الضياع في الواقع وفي الذاكرة، فتصحرت مزارع البن حين تخلّى عنها أصحابها، وتعاظمت المصيبة حين اقتلع المزارعون أشجار البن وشجيراته ليغرسوا بدلاً منها أشجار «القات» وشجيراته. وشتان بين شجرة فتحت للأرض والإنسان أبواب التاريخ ولها منافع بلا أضرار، وشجرة طمست كل السطور وأغلقت كل الأبواب، ولا شيء منها سوى الخسائر والأضرار بأنواعها واحتقار الغير ونسيان التاريخ.. المدرجات والسهول والوديان التي كانت عامرة بالبن تزهو به احضراراً وثماراً لم تعد كما كانت في وصف التاريخ لها، ولا أقل من ذلك.. لقد تلاشى كل شيء وحل «القات» الممنوع من التاريخ والوصف الجميل، وإن كانت أشجاره وشجيراته خضراء كسائر الأشجار، وله من المحبين الكثير، لكنهم يلعنونه بعد كل لقاء يجمعهم به، وهو ما لم يحدث في كل علاقات المحبين على مر التاريخ. كانت شهرة اليمن شديدة الارتباط والصلة بالبن، واستمرت على ذلك لزمن طويل إلى أن استطاع القات.. نعم القات أن يدمر تلك الشهرة ويدمر العلاقة التاريخية بين اليمن والبن، عندما استطاع غزو مزارع البن وحقوله في كل مكان، فلم يدع شيئاً يبرر بقاء تلك العلاقة والشهرة المصاحبة لها. حدث هذا كله بموافقة الإنسان وبجهده وعمل يده، وحين أقدم الإنسان اليمني على هذا الفعل كان يفك ارتباطه بالتاريخ ويطمس معالمه من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم والنتيجة واحدة. إن النتيجة المؤلمة في كل هذا الدمار الذي أصاب التاريخ وأصاب الحاضر أرضاً وماءً ومن ثم اقتصاداً وصحة وأشياء أخرى مرتبطة بكل هذا هي أن البلد قد فقد من كل ما سبق مالا يمكن تعويضه مطلقاً، وسوف تتضاعف الخسارة إلى أكثر من ذلك باستمرار هذا الوضع الذي يؤمن فيه الكثير من الناس أن لا حياة لهم بغير القات، وأن البن على أهميته العالمية لا يرتقي إلى أهمية القات المحلية.. وهذه الأهمية الأخيرة ليست أهمية بالمعنى الاقتصادي والصحي، وهي بذلك تكون أهمية وهمية لا أساس لها وغير قابلة للاستمرار في ظل العبث والفوضى والأضرار الناجمة عن زراعة القات وتعاطيه، وفي ظل الوعي المضاد لزراعته وتناوله في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية. إننا نعجز اليوم عن الإجابة عن سؤال يتردد بإلحاح وهو: بمَ تشتهر اليمن زراعياً في الوقت الراهن؟. الجواب الصحيح هو: كل الإجابات التي يمكن أن تقال خاطئة.. ومن أجل الحصول على إجابة صحيحة تصدق في الحاضر والمستقبل وتعيد للماضي مكانته يجب أن تُعلن ثورة البن من الآن لتعود الأمور إلى وضعها الصحيح قبل غزو القات وانتشاره..!!.