جاء طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية «أوكامبو» بإصدار مذكرة اعتقال للرئيس السوداني بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دار فور جاء ليشكل ضربة قوية لعدالة القانون الدولي ومصداقية المحكمة، فهي أول سابقة في القانون الدولي أن يتم طلب اعتقال رئيس دولة أثناء ولايته مع أن رؤساء الدول يتمتعون بحصانة قانونية جرى عليها العرف في القانون الدولي. صحيح أن هذه المحكمة لاتملك ولاية قانونية على السودان أو غيره من الدول التي لم توقع اتفاقيتها.. ولكن الخطورة تكمن فيما سيأتي بعد ذلك، فقد طلبت كل من فرنساوبريطانيا من السودان التعاون مع المحكمة وهما مع أمريكا السبب الرئيسي في مشكلة دارفور وماآلت إليه الأوضاع فيها. وليس غريباً أن تكون الحيثيات التي استند إليها طلب المدعي العام واهية كونه لم يستقها من مسرح الأحداث كماجرت العادة في التحقيقات وإنما استند إلى شهادات المتمردين في دارفور الذين ظلت حركاتهم ولازالت تقوم بنفس الدور الذي قامت به المعارضة العراقية قبل غزو العراق بل وزادت أن فتح بعضها مكتباً لها في اسرائيل وأرسلت لاجئين إليها. لقد فند نائب الرئيس السوداني تلك المزاعم بمالا مزيد عليه في مؤتمره الصحفي أمس الأول. إن الطريقة التي أعد بها هذا الطلب تؤكد أن هناك دوافع سياسية فأمريكا تدخلت في هذه القضية عندما تأكد اكتشاف النفط والغاز في دار فور وهي تعرقل كل حل ممكن التوصل إليه حتى أوصلت القضية إلى التدويل وأوعزت إلى أدواتها في الحركات المتمردة بالاعتراض على وصول قوات صينية ضمن قوات السلام الدولية خوفاً من مطالبة الصين بنصيبها من كعكة دار فور. الغريب أن المدعي العام لم يرهق نفسه بالتحقيق في جرائم بوش وبلير وشمعون بيريز وأولمرت في بغداد وكابول ولبنان وفلسطين، فقد بلغ عدد الضحايا أكثر من مليون في العراق ومثلهم في افغانستان هذا عدا اللاجئين ولاتزال المجازر والإبادة الجماعية مستمرة في غزة والضفة ولم يتحرك ضمير المدعي العام رغم أن هذا كله حدث بعد انشاء هذه المحكمة ومن اختصاصها. لقد ظهر المدعي العام أمام وسائل الإعلام وهو يستعرض خرائط عن مواقع الإبادة الجماعية كمايزعم بطريقة ذكرتنا بتلك الصور والخرائط التي عرضها «كولن باول» وزير خارجية أمريكا «السابق» لمواقع أسلحة الدمار الشامل في العراق والذي اعترف بعد استقالته أنها كانت مفبركة ومزورة من ال«CIA» وهي الذريعة التي غزت بريطانياوأمريكاالعراق بموجبها فماأشبه الليلة بالبارحة. لقد عبث بوش وإدارته وحلفاؤه بمصداقية كل المنظمات الدولية بدءاً بالامم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين وانتهاءً بمحكمة الجنايات التي رفضت أمريكا التوقيع عليها بحجة أن ذلك ينقص من سيادتها ويعرض جنودها المنتشرين حول العالم للمساءلة عن جرائمهم أمام القانون. كما لم تصادق الهند على اتفاقية المحكمة تحت مبرر هو عدم تضمين الاتفاقية اعتبار الأسلحة الذرية والنووية أسلحة إبادة جماعية. ولازالت أمريكا وحلفاؤها يرتكبون أفظع الجرائم في أنحاء العالم دون أن يتحرك أحد حتى لمجرد الإنكار عليهم والأمثلة أكثر من أن تحصى وما مجزرة حديثة وأبوغريب وقلعة مزار شريف وقانا الأولى والثانية وغزة إلا غيض من فيض، فقد أمر وزير الدفاع الأمريكي رامسفلد بقتل«006» أسير مكتوفي الأيدي في سجن قلعة مزار شريف ورفض حتى مجرد التحقيق في هذه الحادثة.. أليست هذه إبادة جماعية؟؟ ويظهر علينا«ساركوزي» بفكرة الاتحاد من أجل المتوسط ويهرول أصحابنا بسرعة للتوقيع والانضمام دون أن يعطوا أنفسهم فرصة لدراسة المشروع وأهدافه الحقيقية فقد صار كافياً أن يداعبوا خيالنا بحلم الدولة الفلسطينية لنوقع على أي شيء وكم من الاتفاقيات والمواثيق التي وقعناها دون أي مصلحة حقيقية لنا فيها. وخذ مثلاً عزيزي القارئ اتفاقية «الجات» فهي إنما وجدت لمصلحة الدول الصناعية المنتجة ولنفتح أسواقنا لبضائعهم فنحن لانصدر شيئاً يذكر عدا النفط وهذا مفروض عليه«ضريبة الكربون» التي تستنزف جزءاً من ثمنه لمصلحة الدول المستوردة له وهذه الدول التي تلعب بأسعاره حتى وصل البرميل إلى«341$» وكذا اتفاقية منع انتشار الأسلحة الذرية فقد وقعت عليها الدول العربية ولم توقع عليها اسرائيل وبموجبها لايحق للعرب أن يمتلكوا سلاحاً نووياً أو حتى طاقة سلمية نووية ومايجري مع ايران المثال الأكثر وضوحاً. لقد أصبح واضحاً أن أي اتفاقية دولية يتم التوقيع عليها من قبل حكوماتنا إنما ترتد علينا بآثارها السلبية وتتحول إلى أوراق ضغط بيد الدول العظمى لابتزازنا وإذلالنا واتفاقية المحكمة الدولية واحدة من هذه الاتفاقيات وقد أحسن مجلس النواب اليمني برفضه التصديق عليها مع تقديري للمتحمسين لها وللقانون الدولي.. أعود إلى الاتحاد من أجل المتوسط وأهدافه التي هي من وجهة نظري: 1 أن يكون بديلاً عن الشرق الأوسط الكبير الذي فشل ولم تتحمس له شعوب المنطقة ودولها بسبب عضوية اسرائيل فيه. 2 دفع الدول والشعوب العربية للتطبيع مع اسرائيل ضمن المتوسط وقد أدركت ليبيا هذا الهدف فلم تنضم إليه. 3 إبعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي حيث فرنسا صاحبة فكرة المتوسط من أكبر المعارضين لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خوفاً من المد الاسلامي المتزايد في أوروبا... والمتتبع لسياسات الدول الأوروبية وأمريكا تجاهنا يدرك تماماً أن هذه الدول تتبادل الأدوار في خدمة اسرائيل ومصالحها ضد مصالحنا ومع ذلك لازال البعض يصدق وعود السراب التي يمنحونها لنا فمن قائل إن الاتحاد المتوسطي هو الذي سيحل مشكلة السلام في الشرق الأوسط وهو الذي سينشىء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ومن قائل إن الاتحاد سيشيع الأمن والرخاء والاستقرار بين دوله ولست أدري إن كان هؤلاء- مع كل أعمارهم الطويلة في السياسة- يصدقون فعلاً هذه الأحلام الساذجة؟ أم يضحكون علينا أم على أنفسهم؟ خلاصة القول إن على الجامعة العربية والقادة العرب الذين لم يحركوا ساكناً يوم ذبح أحدهم في عيد الأضحى عليهم أن يتحركوا الآن لتدارك تداعيات طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية قبل أن يجدوا أنفسهم يقادون الواحد تلو الآخر إلى محكمة الجنايات الدولية وسينطبق عليهم المثل القائل: «أُكلت يوم أكل الثور الأبيض».. والله من وراء القصد.