لاشيء يهدد مستقبل الأجيال كما تفعل الخصومة مع التاريخ،لأنه وضع يجردهم من الهوية الوطنية،ويقصيهم عن عمقهم الحضاري الثري بالتجارب،وأنموذج القدوة الذي يقتفون آثاره. الأحد الماضي استمعت إلى محاضرة عن الشباب العربي ألقاها سعادة السفير أحمد يحيى الكبسي في المركز الثقافي العربي السوري،والذي آثر البدأ من الحقبة الثورية،حيث الرئيس جمال جميل «العراقي» قائد ثورة 1948م،وأكثر من «25» ألف شهيد مصري خضبوا أرض اليمن إبان ثورة 1962م ونسور الجو السوريون وهم يحمون سماء اليمن في حصار السبعين، وأكثر من «700» شهيد يمني في لبنان هرعوا لنجدة الاشقاء، والتصدي للاحتلال الصهيوني.. تفاصيل كثيرة استذكرها السفير الكبسي من تلك الحقبة سمعتها لأول مرة رغم كل ماقرأته من كتب أو سمعته في ندوات.. فأدركت ساعتها إن موضع العلة اليمنية يكمن هنا، في هؤلاء الرجال المناضلين الذين يحملون مفاخرنا ومآثرنا في حقائبهم، ولايكترثون لقيمة غرسها في ذاكرة الشباب،ليتحلوا بأخلاقياتها، ويقتدوا بأفعالها،ويتعلموا صمودها، وتضحياتها،ومصيرها وارادتها الوطنية القاهرة. البعض استغرب أن يبدأ السفير الكبسي من تلك المرحلة حديثه عن الشباب العربي وآماله والصعوبات التي يواجهها،غير أنني أدركت أننا كنا نجلس أمام رجل غير عادي،سبقنا إلى تشخيص الواقع، وكشف ظمأ جيل الشباب إلى تلك المعاني الوطنية والقومية التي جعلت أسلافهم يتشبثون بالأرض،والأمة والانتماء، والعقيدة وغير ذلك من مبادئ العمل النضالي.. فجيل اليوم لاتنقصه المدارس،أو تقنيات المعرفة، ولا فرص الابداع وتطوير الذات،وتنمية الموهبة،فهو يتمتع بكل شيء خلافاً لأسلافه،إلا أنه تنقصه كثير من القيم والمبادئ الوطنية التي تعمدت الدول المصدرة للديمقراطية والحريات صهرها في المفاهيم العصرية.. فديمقراطية الزمن الراهن تحث شبابنا على التحاور مع الحضارات، وقبول الآخر «الغريب»،ومحاكاة تجاربه، وخلق قواسم جديدة ولغة تفاهم عالمية لكنها على الصعيد الوطني تحثه على الانسلاخ والنفور من المحيط الاجتماعي بدعوى التحرر،وتشجيع التشظي في منظمات وجمعيات،ومجموعات،ومراكز وصيغ مدنية مختلفة،وتغرس في عقله ثقافة الانتماء إلى المجتمع الدولي،والقوانين الدولية،ومواثيق الهيئات الدولية،واستلهام التجارب من شعوب العالم المتقدمة ديمقراطياً،حتى لازمت هذه الثقافة السلوك اليومي للفرد، الذي صار كلما يشتكي أمراً يستدل عليه بما ورد من نصوص حقوقية دولية دونما اكتراث لما منصوص عليه في قوانين بلده ودستوره الوطني. ولعل من أفظع مارأيت من تطبع بالهوية الغربية هو أن جميع الشباب الذين يعملون مع منظمات أجنبية أو الشباب الذين يتلقون دورات تدريبية تحت مسميات ديمقراطية وتأهيلية باتوا يكتبون حرف الواو منفصلاً عن الكلمة،وقائماً بنفسه،لأن مايقابله في الانجليزية يكتب ككلمة مستقلة..!! للأسف هذا الانجراف الشبابي نحو «الولاء الدولي» لم يقابله أي جهد وطني لتحصين الشباب،وتعميق ولائهم الوطني وهويتهم اليمنية.. فما زالت الغالبية العظمى منهم لايعرفون شيئاً عن تاريخهم،ولايعلمون إطلاقاً بأن هناك نحو «25» ألف مواطن مصري استشهدوا من أجل ثورة اليمن،وأن أكثر من 700 مواطن يمني استشهدوا من أجل لبنان.. وكم من قوافل شهداء زفت اليمن لأجل وحدتها.. لذلك يتعامل الكثير من الشباب مع المفاهيم الوطنية على أنها مسائل مزاجية، وحريات فردية، وخدع سلطوية، في نفس الوقت الذي يقف الشباب الأمريكي أمام علم بلاده بكل إجلال كرمز مقدس،ويعتبر كل ذرة من تراب بلاده مقدسة،لكنهم عندما يأتون بلداننا يعلمون شبابنا بأن الرغبة بالانفصال حقوق وحريات شخصية