تسلم «عبدالصبور» راتبه الشهري من المكتب الرئيسي لبريد حضرموت بالمكلا، واتخذ له مقعداً في ركن المقهى الشعبي القديم الملاصق للمكتب، ثم فرش أمامه صحيفة محلية كان يتأبطها لحظة وُلوجه ذلك المقهى.. ارتشف «عبدالصبور» رشفتين متتاليتين من الشاي الأحمر «العصملي» وهو يستعيد في ذاكرته ماهمس له به صديقه «عبدالسميع» من خبر سار يفيد بثبيت الجهات المعنية لأسعار المواد الغذائية، وإن هناك محاسبة أي «صرصرة» قادمة على المتلاعبين بأقوات عباد الله و.. و... ردد «عبدالصبور» في دخيلته : « إن شاء الله يصدق كلامك «ياعبدالسميع»، وهو يُقلّب الصحيفة، بحثاً عن زاوية قائمة أسعار المواد والسلع.. ألقى عليها نظرة خاطفة في بداية الأمر ليتأكد من إفادة صديقه «عبدالسميع»، ثم أخرج من جيبه ورقة وقلماً، بعد أن عد مبلغ الراتب وهو بداخل الجيب وتمتم «لابأس.. ثلاثة وأربعون ألفاً وثلاثة آلاف زيادة.. يعني الإجمالي 46 ألف ريال الحمدلله» وراح يدقق في أرخص محتويات القائمة، وسجل في الورقة: أرز تايلندي نص كيس، قمح المؤسسة الاقتصادية ربع كيس، سكر تايلندي عشرة كيلو، زيت طباخة «سليط» نص كرتون... و... و...و.. أحصى الإجمالي فإذا به يقارب الخمسة عشر ألفاً، وهو أقصى مايتحمله جيب «عبدالصبور» قيمة «راشن» لزوجه وأطفاله الأربعة وأمه العجوز، من غير مصاريف الصيد و «لبس العيال» ناهيكم عن الإيجار والماء والكهرباء.. وبحسبة إجمالية توصل إلى قناعة مفترضة تفيد بأن الراتب «حيكفي» إذا صدقت أسعار وزارة التجارة هذه المرة لأن «الراشن» في الشهر الماضي عصف بحساباته. ارتشف «عبدالصبور» ماتبقى من فنجان الشاي، ووضع بجانبه عشرة ريالات، وهو يطوي الصحيفة ويهم بالمغادرة، إلا أن فتى المقهى استوقفه قائلاً: «باقي خمسة ريالات ياعم.. الشاهي الأحمر «قده بخمستاعش» لابأس.. قالها «عبدالصبور» ودس في يد الفتى خمسة ريالات، وهو يبتسم ثم غادر المقهى صوب «الشرج» حي العمال.. وقبل أن يقطع الشارع الثالث من الحي، متجهاً نحو «المدكن»، انزوى في ركن أحد المنازل ليفرز من الراتب مبلغ «الراشن» ثم ولج الدكان، وناول صاحبه الورقة «الكشف» وهو يقول له : «اسمع يا أخي.. أولاً اكتب المبلغ قدام كل حاجة، ثم اجمع وقل لي كم الحساب». تكتكت الآلة الحاسبة للمدكن بسرعة حثيثة ثم توقفت ليعلن على إثرها صاحب الدكان أن إجمالي «الراشن» هو اثنان وعشرون ألف ريال.. لم يصدق «عبدالصبور» سمعه فقال له : «واه تقول ؟! كيه احسب سوا» ؟! شُف الطلب كله «تايلندي» و«محلي.. » كرّت الآلة الحاسبة مرة أخرى فاستقر الرقم عند ذات المبلغ. سحب «عبدالصبور» ورقة «الراشن» وهو يحدّج صاحب الدكان بنظرة استنكار مشوبة بغضب مكتوم، ثم انزوى في ركن ليكتب على عجل قائمة أخرى «بالراشن» وولج بقالة في الطرف الآخر من ذات الشارع وطلب إجمالي قيمة المبلغ قبل تجهيز المداد، فأتاه الجواب مشفوعاً بابتسامة صفراء يخبره أن المبلغ الإجمالي هو ثلاثة وعشرون ألف ريال. لم يتمالك «عبدالصبور» نفسه وهو المعروف بهدوئه ووقاره، فانفجر غاضباً ملوحاً بالصحيفة المحلية، صارخاً في وجه صاحب البقالة : «خاف ربك ياخي.. إيش هذا الباطل» ؟! شُف أسعار الصحيفة كم ؟! وشُف أسعار صاحبك «العزي. كم ؟! وانته تقطع في رقابنا.. ؟! استح ياشيخ.. و... و.. شد صراخه انتباه بعض المارة من أصحابه فتجمهروا عند مدخل البقالة يستفسرون ويهدئون من غضبه، التفت «عبدالصبور» إلى أقربهم منه وهو لايزال منفعلاً..يصيح : شفت التلاعب «يابو شيخ» ؟! شفت الباطل ؟! ماهي إلا عشرون متراً بين هذا الظالم وذاك المدكن وقدها زيادة ألف ريال ؟! وين الرقابة؟ وين مكتب التجارة؟! وين.. وأشار فجأة إلى شخص بدأ يهرول ليغادر الشارع وصاح فيه منادياً : «ياعبدالرقيب ياعبدالرقيب ياعبدال.. » إلا أن صاحبنا توارى عن الأنظار فالتفت «عبدالصبور» لصديقه «أبو شيخ» ليقول له : «هل عرفته ؟! إنه واحد من موظفي مكتب التجارة شفته طش ؟!». أما صاحب البقالة فلم يبد أي انزعاج أو قلق يذكر من جراء احتجاج وصراخ «عبدالصبور» على الرغم من أنه يعي جيداً أنه لامحالة سيتورط أمام القانون عند أدنى وجود للرقابة المحلية أو مكتب التجارة أو البلدية المشرفة والمنظمة للأسواق، إلا أنه يدرك في دواخله أن شيئاً من هذا القبيل لن يحدث له فها هو «عبدالرقيب» يتسلل مهرولاً عندما ارتفع صوت «عبدالصبور» محتجاً. بالكاد تمكن أصدقاء «عبدالصبور» من إخراجه من تلك البقالة، وهو يصيح محتجاً متوعداً، ثم توقفوا به أمام «كشك» للمثلجات، وقدم له صديقه «بوشيخ» عصير الليمون البارد، وهو يقول له : «الصبر ياعبدالصبور».. العتب على الرقابة ومكتب التجارة والسلطة المحلية.. مادرينا أن الوقت ذه بايجيبنا إلى هذه الملعانة وبعد أن هدأ غضب «عبدالصبور» وشهّد وهلّل وعاد له وقاره، التفت إلى محدثه وهو يحدّق في عينيه وقال : «مقدّر يا«بوشيخ».. لكن شفها جمرة تحت رماد.. وعاده رمضان على الأبواب.. والصبر فيه فضيلة، ولكن للصبر حدود يا«بوشيخ»، ثم استدار في مواجهة الشارع الذي ساده هدوء غريب بعد أن كان ضاجاً بالحركة والأصوات، وهو يداري بإباء وتجلد دمعة أسى سرعان ما أدراك في دواخله أنه لايأسى على نفسه فحسب بل لمن هم أقل منه راتباً ودخلاً مثل صاحبه «أبو شيخ» الذي قدم له عصير الليمون البارد، ولملم أشلاء روحه بعد انفجارها واتجه إلى منزله، وهو يخشى من انفجار آخر.