كان ذلك منذ ثلاث سنوات وفي ليلة سبعة وعشرين من رمضان خرجت كعادتي من بيتنا المتواضع القريب من مسجد الحي في حارة الجرمي متجهاً نحو المسجد بهمة ونشاط وحماس منقطع النظير، فالليلة هي ليلة السابع والعشرين من رمضان ، ولا أريد أن أضيع على نفسي فائدة وبركة سبع وعشرين ليلة ألزمت فيها نفسي أن أحجز مكاناً لي في الركن الأقصى من الجهة اليمنى للمحراب طوال الشهر المبارك. كنت أحمل في جيبي ثروة لا بأس بها «خمسة آلاف ريال» هي كل ما استطعنا توفيره خلال شهر رمضان ، فقد كنا مقتصدين غاية الاقتصاد ، حيث استبعدنا من مائدتنا كل أنواع المقليات والحلويات والشحوم واللحوم، وأبقينا فقط على الضروريات مما لا يتعب المعدة ولا يرهق الجيب ولا يعرضنا للتخمة أو التسمم الغذائي، وذلك بفضل حسن تدبير أم الأولاد خولة بنت عامر بعد أن يئست أن يتحول زوجها إلى رجل ثري من دخله الذي تدره عليه مهنة التدريس، بالإضافة إلى دخله من عائدات سيارة تاكس من موديلات عام 5491م يشتغل عليها فترة بعد الظهر والمساء، ولابد أن تعلموا أنني هنا أذكر اسم زوجتي خولة تكريماً لها؛ لأنها مدرسة فاضلة، أما من جهة لسانها في تأنيبي بسبب تعاسة حظي في الحصول على الدخل الذي يفي بحاجة سبعة أفواه هم مجموع أفراد الأسرة ثلاثة أولاد وبنتان، إضافة إلى الأبوبين بالإضافة إلى شيخين كبيرين هما عمدة الأسرة وبركتها، فإنها أي لسانها لا تستطيع الكف عن ممارسة وظيفتها في التهكم والازدراء لزوج يقرأ كثيراً ويكسب قليلاً، وقد كانت تتمنى أن يقرأ كثيراً ويكسب أكثر حتى يستطيع أن يغطي على الأقل نفقات ما يصرفه للكتب والصحف اليومية والمجلات بدلاً من أن يقتطع ذلك من الميزانية العامة لوزارة الداخلية. كانت زوجتي العزيزة - حفظها الله - قد أوصتني في تلك الليلة المباركة أن لا أبدد المال في غير الفرض الذي اتفقنا عليه، وقد كانت زوجتى مطمئنة إلى أن زوجها لا يتعاطى القات ولا يقارف التدخين، فهو في نظرها في ذلك ملك من ملائكة الرحمن، إذاً فاللحمة يوم العيد مضمونة مضمونة من عند اللحام الذي يتوجه إليه زبائن مخصوصين يعرفهم ويعرفونه، فهو لحام لا يغالي في الغش ولا يدس العظام إلا بقدر تحت شريحة رقيقة من اللحم ولا يعبئ شماطير اللحم والشحوم خلسة كما يفصل سائر الجزارين، وفوق ذلك وأهم من ذلك فهو لا يذبح العجول البازية ولا العجائز من الثيران ولا الأبقار المريضة ولا العجفاء ، فهو لحام لا بأس به فضميره لم يصب إلا بكدمات أو خدوش وسحجات هنا وهناك ، خلافاً لما هو عليه حال الجزارين بشكل عام الذين أصيبت ضمائرهم إصابات مباشرة من ضربات السكاكين والسواطير في أيديهم لتقطيع اللحم وتهشيم العظام. رأيت في طريقي إلى المسجد عجوزاً تتوكأ على عصاها وكأن العصا ينوء بحملها، يرتعش جسمها كله، وهي تريد النهوض، ويكاد العصا ينثني تحت قبضتيها الواهنتين، لم أر من قبل مثل تلك التغضنات على وجه إنسان قبلها، لم يترك التغضن مكاناً في وجهها دون أن يطويه أو يحفره وكأن أنفها قد تحول إلى جسم صغير شديد التكور يشبه جرماً صغيراً بحجم «لقمة القاضي» .. لم تسأل الناس ولم أرها تمد يدها تستجدي المصلين، أمعنت النظر في وجهها وجدت نفسي مشدوداً بل مسحوراً للتأمل فيما يمثله وجهها من طيبة وهدوء ووداعة، خصوصاً عندما ترتسم على ثغرها الخالي من الأسنان ابتسامة بريئة كابتسامة الأطفال الذين أحسن تربيتهم، مددت يدي إلى جيبي، سحبت ورقة من فئة الألف، ناولتها الورقة، تناولتها بلطف وابتسمت ابتسامة أم حنون تشيع ابنها وهي تودعه، ثم مضت تتوكأ على عصاها وبسرعة اختفت ، شعرت براحة نفسية لم أشعر بها من قبل وجدت الهواء الذي أتنفسه في تلك اللحظة كأنه ممزوج بروائح منعشة لم أعهدها من قبل، مضيت أجري لعلي ألحق بها.. سأعطيها ألفاً أخرى وليكن مايكون من أمر زوجتي ، لكنني لم أعثر لها على أثر.. وبعد انتهاء صلاة التراويح أخذت أزاحم الناس للخروج وفي الشارع وجدت الهواء مازال منعشاً.. كنت أريد أن أطير مع الطيور في السماء فماذا تساوي الألف إلى جانب ما أنا عليه من شعور بسعادة تغمر كياني كله، إنها لاتساوي شيئاً رغم أنها تشكل خمس ثروتي أو خمس مالي، وقد أجد عند زوجتي مالا يحمد عقباه، تحسست جيبي لأطمئن نفسي أنني مازلت احتفظ بأربعة أخماس الثروة ،وكم كانت دهشتي حينما اكتشفت أن بقية الثروة قد طارت أيضاً من مكانها.. لاحول ولاقوة إلا بالله.. ماذا أصنع الآن؟ ماذا أقول لزوجتي؟ وماذا أقول لأولادي وبناتي؟ صراحة أقول لكم: لم أتبرم ولم أسخط.. بل أخذت أردد : ماشاء الله كان ومالم يشأ لم يكن.. جمعت أفراد العائلة كلهم أجمعين.. شرحت لهم القصة كاملة ماذا تتوقعون فعلوا بي؟ لقد رأيت منهم العجب.. بصراحة كان الخوف كل الخوف من زوجتي على وجه الخصوص .. لم أصدق ما أراه.. هاهي زوجتي تنظر إليّ بإعجاب شديد كما لو كنتُ فارساً من فرسان النصر عاد لتوه من معركة ضافرة.. تقول لي بشحمة لسانها: أنت ياعبدالحميد إنسان رائع فماذا يساوي ملك الدنيا كله إذا احتفظ به الإنسان وخسر ذاته.. هذه هي ليلة القدر هيأها الله تعالى لنا حتى وإن كانت جيوبنا خالية .. فماذا يساوي المال إذا صلحت النفوس وعمت القلوب بالحب والمودة بدونه؟ إنه لاشيء على الإطلاق.. ثم تخاطب أولادها وبناتها: لكم أن تشعروا بالفخر بأبيكم ،وجهزوا أنفسكم لرحلة يوم العيد بسيارة أبيكم، واتركوا لي ترتيب وإعداد مائدة يوم العيد بدون لحوم ولا شحوم ولا مايؤذي الجسم.. فصاح الأولاد مبتهجين «أي ي ي ه» تعيش أمنا.. يعيش أبونا.. قلت في نفسي : يالها من امرأة عظيمة.. هكذا فلتكن النساء.. أم أنها ليلة القدر.