لقد أدخل الاستعمار العالم بين مزبلتين، مزبلة التخلف ومزبلة الحضارة، ولا ندري أيهما أسوأ، الثانية أم الأولى ؟ فبين مزبلتين تعيش الإنسانية المعاصرة ، فمن الحضارة إلى المزابل كانت الرحلة الاستعمارية جدَّ غريبة في عالم أكثر تطوراً وتخلفاً وغرابة وهمجية !!. لقد استطاع الاستعمار أن يثبت أجندته ويحقق أهدافه في الوطن العربي الذي قسم في ماضيه إلى مناطق «نفوذ وحماية ووصاية» ولم يأت المستعمر عبثاً، ولا كان في نزهة ترفيهية، وإنما كان يبحث عن بلاد شاسعة تختزن من الثروات ما يجعله قابلاً للحياة على حساب شعوب كاملة، وليته اكتفى بهذا وانما أضاف إليه نزعة الاذلال إلى نزعة الاستغلال وسلوك الهمجية، وأدّعى فوق كل هذه الممارسات أنه داعية «سلام وحرية وعدالة ومساواة وحضارة» وتناسى أنه قد تجرد من الفضائل أولها ديانته المسيحية، وتحرر من أخلاق الفضيلة فانبرى مصلحاً يعيث في الأرض فساداً، فلا حضارة ولا دين ولا ثقافة ولا ما يقدمه، لأن البشرية في وجهة نظره قبل مجيئه كانت كالبهائم لا تعرف شيئاً من أمرها، بل إنها تجهل كيفية العيش وعليه أن يعلمها من معارفه ما يجعلها تتمنى حياة الكهوف لتلعن حضارته التي انبنت على الظلم والاستبداد والاستغلال والاحتكار والتمييز والفساد. وإذا كان التاريخ الاستعماري حافلاً بهذه الرذائل فإنه هو من أسهم كثيراً في تخليص الأنظمة الظالمة من إنسانيتها وخلص الشعوب من الشعور بالحرية والعدالة والمساواة. إنه الاستعمار الذي جعل الاضطهاد عملاً مقدساً لديه، وإنجازاً واقعياً تحقق بجهوده، وبهذا حوّل العالم إلى مزبلة كبيرة، بإمكان الإنسانية فيها أن تكون مثلاً يحتذى بالمساوىء والتجاوزات، وكفاءة الاستعمار الحضارية هي تزويد عالم التخلف بما يرحل به إلى العصور الوسطى وما قبلها حتى يبقى هو المتقدم، والآخرون في أعلى وأوسط وأدنى قوائم التخلف.. إنها مزبلته التي دخلها العالم راضياً بل ومبتهجاً !! وتلك هي الغرابة بأبهى تجلياتها