رغم عقم المخرجات لحالة إعادة استنساخ نموذج «الديبلوماسية المتلقية» إلاّ أن إصرار غالبية حكومات المنظومة العربية على مواصلة تمثيل دولها بذلك النموذج «البليد» قابلته رغبة جامحة لدى بضع قليل من الحكومات للانعتاق من ذلك الإطار الذي يكبح جماحها من التحليق في أُفق رحب من الارتباطات الخارجية، والذي لم يجد صناع القرار فيها بُداً من الرهان على أنموذج «الديبلوماسية المبادرة»، أو المنتجة، ذات المهارات الفردية العالية. وفي تقديري أن أنموذج السيد سالم الزمانان - سفير دولة الكويتبصنعاء - يمثل باكورة جيل عصري من الديبلوماسيين العرب، الذي نجحت الخارجية الكويتية من خلاله في إعادة ترتيب أوراق علاقاتها مع اليمن، رغم الحسابات المعقدة، وتداعياتها التاريخية التي عكّرت صفو علاقات البلدين لحين من الزمن. ولاشك أن سعادة السفير الكويتي لم يقدم على صنعاء بعصا سحرية، إلا أن أفقه الفكري والثقافي العريض، ومهاراته الحوارية العالية، وتواضعه الاجتماعي، وحسّه الوطني والقومي الكبير مكّنه من النفاذ ليس فقط إلى أروقة الدوائر السياسية، بل والثقافية والاجتماعية والعلمية، ليستعيد بذلك الحضور الكويتي الواسع الذي رفع أمتن قواعده الراحل الشيخ جابر الصباح «رحمه الله». عندما ألح علي أحد الأصدقاء لحضور احتفالية الذكرى الخمسين لمجلة (العربي) الكويتية تمنعت قدماي من الذهاب وبالكاد وصلت «بيت الثقافة» لأنني أبغض الخطابات الرسمية التي اعتاد بعض السفراء قراءتها في هكذا مناسبات، لكنني عندما استمعت لكلمة السفير الزمانان اندهشت لأسلوبه الثقافي، وحسن بنائه لخطابه، وسلامة عباراته.. وكان ذلك أول محطات إعجابي بهذه الشخصية العربية، وتفاؤلي بمستقبل الديبلوماسية. قبل فترة وجيزة استنفر سعادة السفير قلمه ليرد على أحد الزملاء اليمنيين، ليس لأنه أساء لدولة أو شعب الكويت، بل لأنه «ظلم» اليمن، وسرد جملة سلبيات استنفرت سعادة السفير، فرد عليها تحت عنوان (حصرياً في اليمن أيضاً) وراح يسرد بعض فضائل هذا البلد وشعبه، وعلى نحو لم أقرأ ما هو أجمل منه، ولم يسبقه إليه أحد من المثقفين. ثمة مشاعر جياشة أتصفحها في وجوه اليمنيين كلما مرّ الذكر بالكويت.. ثمة امتنان لا يفارق ثغور اليمنيين.. ثمة لهفة تتلاقف تصريحات القيادات السياسية الكويتية... وكم أبهرني مشهد عدد من الإخوة اليمنيين وهم يتكالبون على صحيفة، عندما دسست رأسي لأكتشف ما فيها، فإذا هي تصريحات لمعالي نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح يؤكد فيها أن الكويت ستدافع عن وحدة اليمن وترفض أية دعوات أو تحركات انفصالية جملة وتفصيلاً..! الكويتيون نجحوا فعلاً في لملمة جراحاتهم، وعدم تسليم الإرادة لأحزان النكبة العربية للثاني من أغسطس، وهم اليوم أقوى من أي زمن مضى، ويفتحون آفاق العالم بنخبة ديبلوماسية فريدة، لا تنتظر تلقي أوامر وتوجيهات الخارجية فيما يجب أن تلعبه من دور، لأنها ديبلوماسية واعية، وماهرة، ومنتجة، وليست ديبلوماسية مناصب فخرية لكهول المجالس الوزارية. ربما على الديبلوماسية العربية أن تتعلم فن المشاركة المجتمعية، ومهارة غرس روح المحبة، ومد الجسور بين الشعوب، وصناعة فرص التعاون، والتآلف، وتقريب المسافات.. ففي هذا الزمن العربي المخنوق بالتحدي ما أحوجنا إلى سعادة السفير سالم الزمانان في كل بلد عربي لنذيب ما علق في صدورنا من هواجس، ونلقي عن كواهلنا إرث الماضي الذي ما زال يؤرقنا بمخازيه!!