كما في كل مرة تجري فيها انتخابات رئاسية أمريكية ينتظر كثير من قادة العالم نتائج تلك الانتخابات بمزيج من مشاعر الترقب والتوجس والأمل بحصول تغيير جوهري في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، وفي أسلوب التعامل مع مختلف القضايا والشئون الدولية. ويبدو أن فوز المرشح الديمقراطي «باراك أوباما»، قد ضاعف من مساحة الأمل وأنعش آمال كثيرين بحصول انفراجات في العلاقات الدولية، وتغيراً في مواقف الولاياتالمتحدة إزاء قضايا دولية وإقليمية متعددة، خاصة بعد ثماني سنوات عجاف اتسمت بالغطرسة وانتهاج سياسة التدخل في شئون بلدان كثيرة تحت مبررات واهية ووهمية اتخذت لها شعاراً «محاربة الإرهاب»، والقضاء على الجماعات التي تنتمي له، وكذا الأقطار التي تدعم تلك الجماعات وتقدم لها العون المادي والعسكري، وتوفر لها الملجأ الآمن وأماكن التدريب. ولا يبدو لنا اليوم أن تلك الإدارة قد انتصرت على الإرهاب، ولا أنها قد تمكنت من متابعة واستئصال كثير من قادته، بل ما يبدو واضحاً أنها قد أسهمت في توسيع مساحته وتمديد نطاق انتشاره في دول وأماكن كثيرة لم تكن تعرف تلك الأعمال الإرهابية ووفرت لعناصر الإرهاب مواطن كثيرة لتمارس فيها عملياتها الحربية وتدريباتها العسكرية. ونتيجة لاتساع مساحة الأعمال العسكرية والعمليات الإرهابية وارتفاع تكلفتها فقد زادت من حجم الخسائر المادية والبشرية، التي أرهقت العالم والولاياتالمتحدة نفسها بعد استنزاف كثير من موارد الاحتياط المالي الأمريكي لدعم المجهود الحربي في العراق وأفغانستان، وتسببت في خلق كثير من الأزمات المالية والغذائية خلال السنوات الماضية، وخلقت مناخاً لأزمة اقتصادية عالمية شبيهة بتلك التي حدثت في عشرينيات القرن الماضي. ويبدو أن الناخب الأمريكي لم ترقه تلك الأعمال والممارسات والسياسات، والنتائج الكارثية التي جرتها على الشعب والاقتصاد الأمريكي، ولذا فقد تعلق بشعرة الأمل التي حملها المرشح الديمقراطي، الذي اتخذ لحملته شعاراً «معاً من أجل التغيير»، ولم يتردد عندما لاحت فرصة التغيير في التصويت لمن غذى لديه ذلك الأمل والإحساس بإمكانية التغيير نحو الأفضل، متناسياً كل الفروق والتمايزات الطبقية والعرقية والحضارية لمرشح الرئاسة ذي الأصل الكيني والإفريقي. وقد جاء في تعليق لأحد المراقبين لتلك الانتخابات ما يفيد أن الناخب الأمريكي انتصر لمبادئه على ثقافة المال والأعمال الحربية المغامرة وسياسة خلق وتأجيج الأزمات داخلياً وإقليمياً وعالمياً، التي اتسمت بها قيادة الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جورج دبليو بوش. صحيح أن التجربة السياسية والانتخابية الأمريكية لا تغري أبداً بالتقليد أو المحاكاة في أي مجتمع من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نظراً لاختلاف التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الأمريكي عن مجتمعاتنا، والأهم لاختلاف التركيبة الحزبية التي تقوم على ثنائية قوية وتبادلية، وهي الظروف التي تعني استحالة نقل تلك التجربة إلى مجتمعنا اليمني بحذافيرها أو محاولة استنساخها وإسقاطها على تجربتنا السياسية دون مراعاة تلك الاختلافات والفروق بين تاريخ التجربتين. إلا أن تلك الملاحظات لا تقلل في شيء مما جرى في تلك الانتخابات في مختلف مراحلها، وتدعونا للتأمل والتفكير في كثير من جوانبها، والممارسات التي رسخت لدى المرشح والناخب الأمريكي ثقافة سياسية وانتخابية نفتقدها في ممارساتنا وتجاربنا السياسية المحلية. على الرغم من أن التنافس السياسي بين المرشحين يسجل عادة بعض الحدة، وأحياناً تصاحبه بعض الممارسات اللاأخلاقية وتبادل الاتهامات بين الطرفين، التي تنتهي بمجرد إعلان الفائز رسمياً. فإنه يعطي دروساً عميقة في الحرص على نزاهة العملية الديمقراطية وجدية المرشحين في الحملات الانتخابية وأثناء المناظرات التلفزيونية، وعدم الاستسلام مطلقاً لاستطلاعات الرأي العام للناخب الأمريكي التي تنجح في تحديد اسم الفائز منذ انطلاق مرحلة الانتخابات الرئاسية، والابتعاد عن المكايدة والمزايدة في القضايا الوطنية أو اللعب على نفسية الناخبين، مع أن كل واحد من المرشحين كان يملك كثيراً من الفرص ومن القضايا التي لم يستغلها لأنه يعلم جيداً أن العملية برمتها يجب أن تصب في خدمة الوطن والمواطن. أما أهم تلك الدروس فيتمثل في أن الخاسر يعترف أمام مرشحيه ومؤيديه بخسارته ويرسل التهنئة للمرشح الفائز بمنصب الرئيس الأمريكي، بمجرد إعلان بعض النتائج الأولية في مناطق الحسم الانتخابي، وقبل الإعلان عن النتائج الكلية للانتخابات، ولا يصدر عنه إساءة لنظام الانتخابات أو للمرشح الفائز أو اتهام لجان الفرز بالتحيز والمحاباة والتزوير. لعلم الجميع أن الحظوظ في الفوز كانت متساوية، وأن العملية برمتها لابد أن تفرز فائزاً في كل مرة، وهكذا هي العملية الديمقراطية والثقافة السياسية للناخب والمرشح الأمريكي. وهي الثقافة السياسية التي استبدلناها في تجاربنا الانتخابية بثقافة غريبة تقوم على إعلان الخاسرين عدم الرضا عن نتائج الانتخابات، وإرسال التهم جزافاً عبر تحميل النظام الانتخابي أكثر مما يحتمل، وكيل تهم التزوير وتغيير النتائج إلى الخصوم، وغيرها من التهم التي تعكس عدم القدرة على تقبل نتائج صندوق الانتخاب إذا أفرزت نتائج غير فوز ذلك المرشح أو تلك الجهة بالانتخابات. وسيادة ثقافة سياسية تقوم على الشك في الآخر. ومع كل الأسف الذي نبديه إزاء مواقف أحزابنا السياسية خاصة في المعارضة التي قررت عدم الاشتراك في الانتخابات القادمة رغم الدعوات المتكررة لاشتراك كل أبناء الوطن الواحد في هذا الاستحقاق الديمقراطي، من باب الحرص على مساهمة الجميع في عملية البناء والتنمية وتعزيز الممارسات الديمقراطية. يبدو هذه المرة أنها زادت على تلك الثقافة مفردة «الشك الاستباقي» في نتيجة الانتخابات حتى قبل أن تنطلق عمليات التسجيل وتعديل قوائم وجداول الناخبين، متأثرة بسياسة «الضربة الاستباقية التي ابتدعها الأونكل أو العم سام»، وطبقها في تعاملاته وسياسته الخارجية، وآثرت السلامة والهروب من وجع رأس التحضير للحملات الانتخابية النيابية القادمة، وتجنب مشاكل فض خلافات المشترك حول قوائم المرشحين الموحدة في مختلف الدوائر الانتخابية حتى لا تظهر مساحات الخلاف بينها لجمهور الناخبين فتؤثر عليها، وربما فضلت النزول بقوائم من المرشحين المستقلين أو من يصح أن نسميهم بالمرشحين «المتحزلين، لأنهم مرشحون حزبيون فضلوا الترشح بصفة مستقلين»، عل وطأة النتيجة إذا أتت غير مرضية تكون أخف، أو لعل الناخب اليمني يميل إلى التصويت للمرشحين المستقلين، مع علمه بحقيقة الانتماءات الحزبية للمرشحين، فتحدث المفاجأة التي يحلمون بها بفوز أغلب مرشحيهم أسوة بانتخابات 1997م، التي خاضها الحزب الاشتراكي بمجموعة من المرشحين المستقلين، نتيجة إعلانه عدم الاشتراك في تلك الانتخابات. جامعة إب