من غير المقبول والمعقول أن تعيش أمة بأكملها خارج العصر في الهامش الحضاري عالة على الحياة، تشتري من عدوها رغيفها وسترتها وسلاحها، مثلما تشتري أقلامها وأوراقها ومستلزمات عملها ومعرفتها منه!!.. قرون ولّت ونحن ندفع فاتورة تخلفنا، وبنفس الوتيرة ندفع ثمن صمتنا وفرقتنا وصراعاتنا، مع أننا لم نعد قادرين على ترقيع واقعنا بالكيفية المعتادة. لأن تلك الطريقة الساذجة والبالية تزيد الخرق اتساعاً والحالة تشظياً، والمجتمع جهلاً وتخلفاً، والقلوب سواداوية، علينا أن نثور ضد تلك الجهالات التي قادت أمتنا إلى هذا المستوى من الجهل والوهن والضعف. ديننا ومنهج حياتنا طالبنا بالعزة والإباء مثلما طالبنا بالقراءة والتعلم وتحصيل المعارف، والذهاب إلى باطن الأرض وفتوحات الفضاء، طالبنا بإعداد القوة مثلما طالبنا ببناء قواعد وجسور المعروف والخير والمحبة والسلام. طالبنا بإحياء الضمائر والعقول وتجديد الحياة ركدت أو تبلدت، مثلما نهانا وبشدة عن التهاون والركون إلى النوم والفرقة والعاطفة الكاذبة وإفساد الحياة وتخريبها. أمتنا تتصدر قائمة الإنتاج النفطي في الوقت الذي تتصدر قائمة الشعوب الأفقر والأعوز، لم توجّه امكانياتها تلك إلى حيث ينبغي أن تكون لتحقيق التفرد والتفوق المادي والبشري، لفرض التوازن والقوة بالقوة، والردع بالردع المماثل والموازي. توظيف ثرواتها في بناء الإنسان وتدريبه وتفجير طاقاته وإبداعاته وتحريره من عقدة الاستبداد والخوف والتآمر، في تحسين معيشته ودفعه إلى السباق الحضاري بقناعة ومسئولية. للأسف غدت أمتنا مهانة على نخوتنا، ذليلة على كثرتنا، ضعيفة رغم ضخامة امكانياتنا وقدراتنا، مقهورة مذبوحة رغم كثرة جيوشنا وأسلحتنا التي لو تحركت لغيرت مجرى التاريخ وحولتنا إلى الوضع اللائق بنا وبها، لكنها للأسف في مخابئها، رابضة تنتظر صدورنا وعروضنا وبلداننا. أي عصر هذا الذي نعيشه، وأي أمة نحن؛ يتخطفنا المرتزقة وتجار الرقيق من كل اتجاه حتى من داخل بلداننا وحدودنا، حفظنا قصائد المتنبي في الشموخ والحرية، لكننا تجاهلناها عند منعرج الواقع وميدان الحياة. ما تزهق من أرواح وتسال من دماء في غزة وكل شبر من أرض فلسطين إلا دليل واضح لما آلت إليه أحوال أمتنا واحالتنا إلى أشباح لا قوة لها ولا تأثير. المسئولية الأخلاقية انعدمت مثلما انعدمت المسئولية الدينية وحق القرابة، الأحداث التي مرت بها فلسطين لأكثر من نصف قرن كفيلة بتعليم أبلد البلداء في هذا الكوكب. ومع هذا لم نتعلم ولم يقف منا أحد، ظلت الجهالة تلاحقنا، تتمرغ بوعينا وتفكيرنا ومصالحنا، فلا نحن تخلصنا منها، ولا هي انتقلت لمن هو أحوج إليها منا في هذا العالم، لا فرق في هذا بين سواد الأمة وخاصتها. استشعار كل قطر عربي بمسئوليته تجاه هؤلاء - ولو كان مجازاً - سيخلق صوتاً مفزعاً للعدو الاسرائيلي ومن ورائه أمريكا والمتيهودون جميعاً في الداخل والخارج. دعونا نبحث ونستدعي عناصر القوة وأدواتها وعدم الانتظار إلى ما سيأتي به الآخرون؛ مع علمنا المسبق من هو الآخر هذا. دعونا نشجع روح المغامرة وليس المقامرة لنخرج من هذا المنحدر المهلك، لأن الفرق بين الأمرين شاسع جداً وكبير؛ كون المغامرة تقودنا إلى إحداث وخلق عناصر وقواعد القوة، أما المقامرة فطريقها إلى حانات الليل وأربابها. فما يحدث لاخوتنا في غزة اهانة لكرامة أمة مبطوحة من المحيط الفاتر إلى الخليج الغادر. ولن يكون مصيرنا بأفضل منهم إن بقينا على ما نحن عليه من وهن وضعف وتناحر وتباغض وفرقة.