يمكننا أن نكتشف سُلطة نص درويش المبكرة المغروسة في أساس ذائقة سمعية وبصرية تتصل بالفنون المختلفة، وهذه المقاربة افتراضية بقدر كونها حقيقية، لأن استجلاء فلسفة التضاد وجماليات التعارضات الفنية في تلك الفترة المبكرة دلّلت على شاعرية درويش وقدرته الاستثنائية على ركوب صهوة حصان الشعر كفرس المتنبي الذي قال فيه: «أعز مكان في الدُنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب» ولقد كان درويش كالمُتنبي في أُفُق ما، ينزاح بالمغامرة الشعرية ويركب جواد الشعر فيما يستقرئ أحوال الوجود من خلال علاقته المؤكدة بالذاكرة الشاملة.. بالحياة والشعر، وهنا أود الإشارة إلى ملمح آخر من ملامح ثقافة درويش والتي تبدت في نصوصه النثرية غير المتداولة على نطاق واسع ولكن الهامة جداً، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نصاً يقرن فيه الحياة بالشجرة، معيداً الاعتبار لفلسفة الطبيعة المتصلة بالوجود، متحدثاً فيها عن المصائر والأبدية.. تلك واحدة. أما المنطلق الآخر فيتصل بتجريبات محمود درويش المتعددة والراكزة في أساس الشعرية، فمن العمودي إلى التفعيلة الغنائية المموسقة والمدوزنة، إلى الشعر الوامض الإشاري كقوله: وأبي قال مرة احذر البحر والسفر وأبي قال مرة الذي ما له وطن ما له في الثرى ضريح ونهاني عن السفر وأيضاً قوله: وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافراً إنني العاشق والأرض حبيبة مثل هذه البوارق واللمحات نتابعها مع محمود درويش الأول الذي قال الكثير من المتشابهات يُسراً وقراءة مما جعله يتربع في مكانة أثيرة من الذاكرة الشعرية العربية المعاصرة.