الفراشة من أرقّ الكائنات الحيّة وأكثرها جمالاً، وهي من الرقة والعذوبة إلى حدٍ يتناسب مع نواميس حياتها المغايرة لكل الكائنات. فالفراشة لا تقْتات إلا من رحيق الأزهار، وهكذا يكون نمط الغذاء الذي تعتمد عليه دليلاً على النبل والإقلال معاً، فالفراشة رشيقة بطبيعتها، خفيفة الوزن، تكاد أن تصبح مجرد أجنحة ملونة وزاهية. والذين يعرفون أنواع الفراشات يتعجبون من تلاوين أجنحتها، وقد اكتشف العلماء مؤخراً أن أنساق المواد العضوية التي تسهم في تلوين أجنحة الفراشة لا نظير لها في الطبيعة؛ حتى إنهم يعتقدون جازمين أن معرفة كُنه تلك المواد العضوية سيغير جذرياً نظرتنا إلى علم مواد الألوان، وسيفتح للبشرية باباً جديداً في هذا العلم الكبير. والشاهد أن النوع الواحد من الفراشات يتميز عن الآخر بخطوط تكاد تشبه بصمة الأصبع الآدمية، فلا فراشة إلا ولها خصوصيتها الجمالية، ولا نوع من أنواع الفراشات إلا وله ألوانه الخاصة به. وكما تتعدد طبائع البشر تتعدد طبائع الفراشات من حيث سرعة الطيران أو المدى الذي تصل إليه في العلو، أو النوع النباتي الذي تُفضّل رحيق أزهاره، غير أن هذا التنوع الكبير في طبائع الفراشات لا يلغي واحدية المنشأ والطبيعة، فالفراشة أقرب الكائنات إلى النور؛ تحب الضياء وتبحث عنه، بل إنها تتماهى مع النور حد الاحتراق، وهو ما حدا بالمتصوف الإشكالي «الحلاج» إلى أن يضع الفراشة في بداية نصه المعروف ب «الطواسين». و«الطواسين : جمع حرفي ط ، س، وهو نسق اعتمده الحلاج لكتابة نص مفتوح يقدم فيه رؤيته للوجود والماوراء، ويتسم ذلك النص بقدر واضح من الغنائية النصّية الأقرب إلى ما يسمى الآن بقصيدة النثر، والحلاج ليس هو الوحيد في هذا الميدان الفسيح، فهنالك النفّري - صاحب المواقف والمخاطبات - وأبو حيان التوحيدي - صاحب الإشارات الإلهية - وفي عصر النهضة حاول مصطفى لطفي المنفلوطي التنويع على النثر الفني». واعتبر الحلاج أن تحليق الفراشة حول النور ترميز لدوران الإنسان حول الحقيقة بحثاً عنها، فإذا بلغ الواحد منا إلى مثابة تلك الفراشات في العشق التام للنور والضياء ينخلع عن ذاته وينسكب في الحقيقة الكلية متماهياً معها، ونافياً لوجوده الفيزيائي المحدود، اتصالاً مع الوجود الحقيقي الذي يتجاوز المرئي، بل ارتقاء إلى المِثال.