لقد دشنّا هذه المحاولة رغبة منا في توضيح بعض جوانب الصورة غير المرئية لطرفي المشهد السياسي اليمني، وربما تثير النقاط الواردة فيها نقاشاً نتمناه علمياً وعقلانياً بين الأطراف السياسية المتصارعة، بما يسهم في تقريب وجهات النظر، وتقليص مسافات الخلاف الشاسعة، وتجسير الفجوة الكبيرة في نظرة الطرفين إلى الاستحقاق الانتخابي القادم، أي الانتخابات النيابية في 27 إبريل 2009م، مع قناعتنا الكاملة بأن الواقع ربما يختلف بشكل جذري عن التنظير السياسي وقد يتجاوزه. وتأتي هذه النقاط استكمالاً لتناولة الأسبوع الماضي عن أسباب الخلاف السياسي بين أطراف المنظومة الحزبية والسياسية اليمنية، وقبل أن نلج في جوهر موضوع الخلاف، أي الخلاف حول النظام الانتخابي الأكثر تحقيقاً للعدالة، والمساواة، وجلباً للاستقرار السياسي والحكومي، سنعرج على المراحل التاريخية التي عرفها حق الانتخاب تاريخياً، وأهم المراحل التي مرّ بها في مجتمعنا اليمني حتى بات حقاً لكل مواطن يمني. التطور التاريخي لحق الانتخاب تجدر الاشارة إلى ان الأمر يتعلق بالحديث عن الانتخاب بوصفه أسلوباً من أساليب انتقال السلطة ديمقراطياً من الشعب صاحب السيادة الأصلي، إلى ممثليه في مختلف المجالس والهيئات بما يحقق للطرفين معاً «الشعب وممثليه» المصالح المرتجاة من وجود هذه النظم الانتخابية المتنوعة، ويحقق الأمرين المشار إليهما في التناولة السابقة، أي تحقيق العدالة والمساواة في التمثيل من جهة، والاستقرار السياسي والثبات الحكومي من جهة أخرى. لقد انقسمت طرق انتقال السلطة داخل الأنظمة السياسية المعاصرة تاريخياً، إلى نوعين رئيسين وسائل ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية تتمثل الوسائل غير الديمقراطية في إسناد السلطة عن طريق ولاية العهد أو الوراثة، والاختيار الذاتي أو التعيين الفردي لشخص من يخلف الحكم، وأخيراً الاستيلاء عن طريق الثورة أو الانقلاب، ولقد عرف مجتمعنا اليمني كل هذه الانماط غير الديمقراطية في أغلب مراحل تاريخه القديم، والحديث والمعاصر أي فترة ما بعد الاستقلال على مستوى شطري الوطن سابقاً. أما الوسائل الديمقراطية فتنحصر في وسيلة واحدة أساسية هي الانتخاب بسبب استحالة تطبيق الديمقراطية المباشرة التي تجسد حكم الشعب بطريقة غير مباشرة، وينتج عن هذه الوسيلة تكوين الهيئات النيابية وباقي السلطات التي تمثل الشعب، وقد عرف مجتمعنا اليمني انتخاب بعض الهيئات والمجالس النيابية الشعبية في بعض المراحل التاريخية قبل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ثم أصبحت الوسيلة الوحيدة المقبولة لانتقال السلطة، بعدها حيث نصت المادة «4» من دستور الوحدة على ذلك صراحة، وجاء فيها : «الشعب مالك السلطة، ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعن طريق المجالس المحلية المنتخبة». والانتخاب لا يكون معبراً عن روح الديمقراطية إلا بقدر ما يكون وسيلة لمشاركة أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب اليمني «ممن يحق لهم ممارسة الحق في الانتخاب، وممن تنطبق عليهم صفة المواطنين» في عملية إسناد السلطة دون قيود أو موانع تحول دون مشاركة جميع مواطني الدولة في عملية الانتخاب، ومن المعلوم للجميع أن مجتمعنا اليمني لم يعرف الانتخابات خلال مراحل طويلة من تاريخه الحديث والمعاصر، ولم يعرف في التاريخ القديم شكلاً من أشكال المشاركة السياسية الشعبية الواسعة والتنافسية التي نعرفها اليوم، وإن أشارت كثير من كتب التاريخ اليمنية إلى وجود اشكال أخرى من أشكال الشورى والمشاركة الشعبية في الحكم في عهود تاريخية عريقة في القدم مما ورد ذكره في القرآن الكريم، ومما أشرنا له في تناولات عديدة سابقة عن الديمقراطية في مجتمعنا اليمني. وفي المجتمعات الديمقراطية الغربية لم تتطور نظرية التمثيل الشعبي عبر الانتخاب إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحتى بعد ظهور هذه النظرية فقد ظل حق الانتخاب محصوراً على عدد قليل من أفراد المجتمع، حيث كان مقيداً بشروط كثيرة منها شرط النصاب المالي، أي أن يكون الناخب مالكاً أو حائزاً أو شاغلاً لعقار يدر عليه دخلاً معيناً، أو أن يكون من دافعي الضرائب، وكذلك ربط حق الانتخاب في بعض المجتمعات بشرط الكفاءة العلمية بمعنى حصول الناخب على درجة معينة من التعليم مثل الإلمام بالقراءة والكتابة أو الحصول على مؤهل دراسي معين. وقد جرى تبرير تلك القيود بكونها تكفل اهتمام الناخب وجديته في ممارسة حقه الانتخابي، وحرصه على اختيار من يحسن في السلطات والهيئات المنتخبة وعلى أساس ان الناخب الأمي لا يمتلك القدرة على الحكم الصحيح بالنسبة للشئون العامة، ويسهل خداعه وغيرها من المبررات التي ظلت سائدة لفترة طويلة من الزمن، وقد أضافت بعض النظم السياسية شرط الجنس، حيث ظل الحق في الانتخاب محصوراً على فئة الذكور دون الاناث في أغلب المجتمعات الإنسانية إلى منتصف الخمسينيات في بعض المجتمعات، وإلى أواسط الستينيات من القرن الماضي في كثير من المجتمعات وبقي هذا الحق محصوراً على فئة الذكور من اليمنيين إلى فترة متأخرة من ثمانينيات القرن الماضي. وبعض تلك التبريرات قد تبدو وجيهة في ظاهرها ومنطقية في حجيتها ولكنها في باطنها تخفي الرغبة في اقصاء بعض الأطراف عن ميدان المشاركة السياسية، ومحاولة تضييق شريحة المواطنين المتمتعين بهذا الحق إلى أقل نطاق ممكن، حيث يبدو أن الهدف الحقيقي من وضع تلك القيود استبعاد كثير من أفراد المجتمع من عملية المشاركة السياسية وممارسة الحق في اختيار ممثليهم في الانتخابات المختلفة، وحصر حق الانتخاب في فئات معينة ظلت تستأثر به إلى فترة متأخرة من القرن الماضي عندما تم اطلاق هذا الحق ليصبح في مقدور كل مواطن - بغض النظر عن جنسه ودرجة ثقافته، وأيضاً بغض النظر عن مستواه المالي- المشاركة في الانتخاب، وظهر إلى الوجود نظام الاقتراع العام أو حق الانتخاب العام الذي يمنح لجميع المواطنين دون تمييز، ليتحقق شرط الديمقراطية والعدالة والمساواة في منح الحق في المشاركة الشعبية لجميع مكونات المجتمع. ومن الواضح أننا في مجتمعنا اليمني قد أخذنا بحق الاقتراع العام، وخاصة في مرحلة الانتخابات النيابية الأولى في ظل دولة الوحدة اليمنية 1993م، ولم نضطر إلى قطع نفس المراحل التي مرت بها الأمم والشعوب قبلنا إلى أن وصلت مرحلة الاقرار بحق الاقتراع العام، والمتتبع للتجارب الانتخابية اليمنية السابقة سيلحظ عدم وجود نية أو مبرر أو رغبة في اقصاء طرف أو فئة اجتماعية، ولا سبيل لتهميش حزب أو تيار سياسي، بعد أن حافظت التجربة اليمنية خلال الانتخابات النيابية والمحلية والرئاسية السابقة على نفس الأسلوب، ومنح الحق في الاقتراع العام لكافة أفراد المجتمع اليمني، ممن يبلغون سن الثامنة عشرة من اليمنيين، ويتمتعون بالحقوق السياسية والأهلية القانونية والأدبية التي اشترطها قانون الانتخابات اليمني. وتجدر الاشارة في الأخير إلى أن ممارسة هذا الحق في الاقتراع العام يحتاج إلى حسن اختيار النظم الانتخابية التي تمكن الأحزاب السياسية من عرض وتسويق مرشحيها على الناخبين وتمكن اللجان الانتخابية من فرز الأصوات لتحديد الفائزين وضمان الحياد والنزاهة، وتمكن الناخب من معرفة المرشح الذي يصوت له، بمايحقق العدالة والمساواة، والاستقرار السياسي، وقد يتساءل القارئ: ما المعايير المعتمدة في اختيار النظم الانتخابية ؟ ولماذا ثار الخلاف بين الطرفين حولها ؟ سوف نترك الإجابة عن هذا التساؤل إلى التناولة القادمة، إن شاء الله تعالى. ٭ جامعة إب