كنت قد ظننت فيه الظنون في أن مشكلته أنه لم يستطع تكوين رأي محايد عن الحياة!! ظننت أن الغلو قد سيطر على تفكير صاحبي بحيث صارت الحياة عنده ليست سوى ذلك الكم الهائل من البؤس والقسوة التي تجلبها رياح الحقد والحسد والكراهية المتأصلة في طباع البشر حسب ظنه الأمر الذي جعل عامة الناس الأبرياء والبسطاء والاتقياء يتوارون عن مسرح الحياة، ينزوون بعيداً، يلفهم النسيان، فيكتنفهم الشعور بالضياع خوفاً من الضباع. وهم أولئك الذين يديرون شئون الحياة في مواقع عليا أو دنيا برؤوس فارغة من العلم والمعرفة ونفوس قد أفسدها الطمع وضمائر مدفونة تحت ركام من أنقاض الخطايا والذنوب والآثام.. وقلوب عبث بها النفاق وسيطرت عليها الأنانية. في معظمهم ليسوا سوى ذلك الكم الهائل من التعساء بين مخادع ومخدوع لايصدر الجميل ولا النبل والتسامح إلا اضطراراً!! أما سجايا الوفاء والشكر على المعروف والاعتراف بالجميل والرضا بما قسم لهم، وقبول الآخر والتماس العذر له وغير ذلك من الخصائص الإنسانية العريقة التي كانت متأصلة في طباعنا وضاربة الجذور في أعماق الصالحين من أسلافنا فقد أتى عليها الزمن. ثم يتساءل صاحبي: هل يوجد اليوم من يؤثر أحداً على نفسه بعشر مقدار مايدعو إليه الدين؟ هل يوجد من يتسامح بشبر من الأرض لصالح جاره أو يتنازل لأخيه عن بضعة أمتار ليستره ويعينه على ستر بناته وزوجه إذا ما استجدت حاجة لهم عند جارهم أو قريبهم؟ ثم يبني صاحبي على كثير من مواقف الناس تجاه بعضهم البعض موقفاً متشدداً في أننا نعيش اليوم ظروفاً بيئية واجتماعية غير متسامحة أفرزتها ثقافة عصرية طارئة.. جعلت أجيالنا المتعاقبة ترضع القسوة والشدة وسوء الخلق مع قطرات الحليب «الصناعي» الذي يغرق أسواقنا من أبقار سمان، تتغذى هي أيضاً وترعى ليس من المروج إلا قليلاً منها وليس من الاحراش الطبيعية، بل تتغذى من وجبات صناعية تعدها لها التكنولوجيا الحديثة.. وجبات غذائية صناعية للأبقار، ليست من الحشائش وأوراق الأشجار ولامن العلف والأغصان وإنما من الهرمونات ودماء الأبقار المسفوكة ومن عظامها المدقوق وماخفي كان أعظم من مكونات الوجبات الصناعية للأبقار التي يرتوي أطفالنا من ألبانها بأسعار باهظة التكاليف، بعد أن كفت أو امتنعت الأمهات عن إرضاع أبنائها وبناتها تمشياً مع الموضة وتقليداً أعمى لثقافات وتقاليد كانت غريبة عن مجتمعاتنا.. ويستخلص صاحبي من هذه الأفكار قناعة لايسمح في التراجع عنها في أنه منذ أن كفت الأمهات عن إرضاع أطفالهن رضاعة طبيعية فإن أجيالنا صارت تعاني من أعراض مرض جنون البقر الذي تسلل إلى أجسامهم بجرعات خفيفة غير محسوسة.. مثل جرعات السم البطيئة التي لايشعر بها الإنسان إلا متأخراً. قلت لصاحبي: لسنا وحدنا الذين تخلت نساؤهم عن إرضاع أطفالهم فالعالم كله يتعامل مع الألبان الصناعية، فلماذا لايسري عليهم مثلما يسري علينا من تأثير في أبدانهم وعقولهم وعواطفهم.. إلخ؟ قال: ومن قال لك إن العالم لم يتأثر بالألبان الصناعية؟ هذه الأوزان الضخمة والأوزان الثقيلة والكروش المترهلة والسمنة البغيظة في أمريكا وأوروبا والعالم، منشأها بالطبع اللبن الصناعي والوجبات السريعة، هناك أيضاً أضرار نفسية وعقلية وعاطفية، نشأت عنها: قسوة في الطباع وغلظة في السلوك وترد في العلاقات الإنسانية وضياع للمروءة والمودة بين الناس، وتغليب للمصالح الذاتية والأنانية.. هذه السياسات العابثة بمصائر الشعوب، وهذا النظام العالمي الجائر.. وهذا البنك الدولي العابث والمتهاون وكل أنواع هذه الصور الاقتصادية التي نشأ عنها غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وازدياد الفقر والمجاعة بين دول العالم «الثالث» بعد المليون! من هو المسئول عنها؟.. هذه الوحشية والغلظة المدفونة تحت الابتسامات والمصافحات الدبلوماسية..! إسألوا أمهات أولئك الساسة عن ماذا أرضعنهم؟.. قلت لصاحبي: ليسوا كلهم سواء.. قال: كل الذين رضعوا «النيدو» سواء.. يختلفون فقط في طولهم وعرضهم وألوانهم وملامح وجوههم.. أما طباعهم وسلوكياتهم فواحدة إلا بالقدر الذي يميز ذئباً عن ذئب أو نمراً عن نمر، أو لبوءة عن لبوءة.. سألته وماذا عنا؟ قال: لا نختلف عنهم في شيء إلا من هذبه الدين وصقلته العقيدة وتسامت به تربية راقية.. قلت له:لقد ظننت في البداية أنني وإياك على طرفي نقيض وأنك لاترى سوى السباع ولم تر عيناك الغزلان والظباء ولم تر الحمام والعصافير أو تسمعها وهي تشدو بأعذب الألحان قال: وهل رأيتها أنت؟ وهل رآها أو سمعها من يقرأ هذا الحوار؟ كيف نراها أو نسمعها وقد ضربت علينا حضارة العصر طوقاً من حديد يفصل بيننا وبين السماء وطوقاً يجعل صلاة الفجر والقيام المبكر للاستمتاع برؤية السماء ورؤية الطيور والعصافير بأشكالها وجمال تكويناتها مستحيلاً مثل الاستمتاع بسماع هديلها وزقزقتها وعذوبة ألحانها، طوقاً من الغفلة والكسل والخمول، مقابل ماذا؟؟ مقابل ما تأتينا به الفضائيات المتهتكة وغير المنضبطة التي لاترينا الطيور إلا وهي تتسابق ولاترينا الظباء والغزلان إلا وهي تتناطح، يستعرض فحولها عضلاتهم وقرونهم وهم يتنافسون على نيل الاعجاب من إناث الظباء والغزلان!!، حتى القرود ترينا إياهم لايحتشمون وقد كانوا محتشمين..هذه هي حضارة "النيدو" و"جنون البقر" كان لهما أعظم الأثر في صياغة ذهنية الإنسان المعاصر..وفي تشكيل ضميره وعواطفه. ثم ألا يصلح هذا الاعوجاج في الأخلاق والانحراف في السلوك الذي نراه ماثلا أمام أعيننا أن ينذر أو يكون هو إرهاصات لتسونامي اجتماعي رهيب؟.. قادم لامحالة؟!.