اللغة أرفع درجات التعبير عن الذات والموضوع ذلك أن اللغة ليست قاموساً بمفردات، بل هي جماع المفردات والإشارات والإيماءات والفراغات والصورة حتى إن الهيئة أو الصورة التي نراها أمامنا بوصفها كلمة تحمل في طياتها سلسلة موازية من التعابير أو اللغات؛ فالكلمة المكتوبة رسم وصوت وإشارة وموسيقى ومعنى، فهي رسم لأنها تمر عبر عدسات العين، وتترجم كمعنى يفيض بانزياحات وتعدد دلالات فالكلمة حمّالة أوجه حتى وإن تأطرت بمعنى من المعاني القاموسية، وهي صوت؛ لأنها تحمل الأصول الصوتية لكل حرف فحرف الألف الذي يُعرف بوصفه محلاً هندسياً لنقطة ضمن مسار معلوم إنما هو أيضاً صوت يخرج من جوف الفؤاد ممتداً في الأثير وإلى ذلك يمتد حكم الصوت الذي تلتقطه الأذن بعد أن يتحول إلى دوائر تنزاح ضمن متوالية هندسية فالشاهد أن العين تلتقط الصورة وفق مسارات مستقيمة، ولهذا فإن العين لا ترى ما وراء الحجب، غير أن الأذن تلتقط صوتاً ضمن مسارات دائرية حلزونية، ولهذا فإنها تسمع ما وراء الجدران، وأحياناً ما وراء الحجب. لقد رأينا كيف أن الأعمى يكون بصيراً؛ لأن حاسة الاستماع لديه تكون أكثر تطوراً من الآخرين المبصرين ، فيما يكون الأبكم أكثر قدرة على أعمال يديه وعينيه، مجيداً بعض أنواع الحرف التي قد لا يقدر عليها المبصرون الاعتياديون. من ذلك نرى أن الكلمة التي تحمل في طياتها الصورة والصوت تحمل أيضاً موسيقى الوجود فهي مموسقة جبراً لا خياراً، آية ذلك تراتب الحركة والسكون في اللغات الإنسانية تراتباً موسيقياً، أيضاً تناوب ميزان الاستقامة الشكلية والصوتية في الكلام حتى إن كل كلام العالمين جميل، جميل ، جميل .. وليس من لغة على وجه الكرة الأرضية إلا وتجمل ذات القيم الجمالية التي تتروحن بتفاعلها الشامل مع الذات والموضوع «الإنسان والوجود» ذلك أن ما نراه الآن في محركات البحث بأجهزة الكمبيوتر والتي تعمل وفق لوغاريتمات رياضية جبرية موسيقية وتتمكن من تحويل اللغات لبعضها البعض ، وتختزل الإشارات وتحيلها إلى صور أصوات وتمازجات لا متناهية إنما تستقيم على «لوغاريتمات مموسقة» لأنها محكومة بالميزان الرياضي ، هذا وقد تأسس علم الكمبيوتر المعاصر على سابقه علم «السيبرنيتيكا» ، وهو العلم الذي يسمى أيضاً «علم المعالجة الالكترونية للمعطيات». محركات البحث ما كان لها أن تقوم بهذا العمل لولا البرامج اللغوية التي استفذت واستسبرت أسرار الكلام، فوجدت أن اللغة أشمل من قاموس المفردات وسياق العبارات ومألوف المعاني وما يتم دراسته وترداده رسماً عن رسم، فاللغة بحر من مداد لا ينفد، والكلمات غيض من فيض لا يدرك، قال تعالى: « قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي » ، وفي أساطير الأولين افتراض بأن اللغة جاءت من السماء وأن الكلام تنزل رباني حول الإنسان من كائن يشير للأشياء بالبنان إلى إنسان ناطق، قال تعالى: «وعلم آدم الأسماء كلها» ، وفي هذه لطيفة من لطائف التعليم الإلهي الذي يرينا أن اللغة نابعة من عليا الكون وجواهر الوجود، وهي بهذا المعنى ليست كلاماً مرسلاً نقوله ، بل إنها ترجمان شامل للغة فوق اللغات ، ولتعبير يتجاوز التعبيرات، ولحالة كليانية تسمو على الجزئيات.