ظلت أسرار الانجاز الحضاري الذي بلغته الحضارات القديمة مغيبة زمناً طويلاً عن المعرفة البشرية، ولم يكن وقوف المرء أمام عرش بلقيس وسد مأرب أو الجنائن المعلقة أو الاهرامات إلا محاولة لاستكشاف أسرار تلك الأجيال.. غير أن البشرية أدركت في عصورها المتقدمة ان الاستقرار الذي كفلته تلك الأمم لشعوبها كان كفيلاً بتفجير كل هذه النهضة العظيمة. وعندما نتصفح أوراق التاريخ نجد أن الاستقرار لم يكن ممكناً لولا ان ثمة أنظمة وقوانين أوجدتها تلك الحضارات لنفسها، فنظمت علاقات أبنائها بها، وجدولت وفقها طموحاتها، وكل ما تضمنته نظرتها للمستقبل.. ولعل وجود السلطة المركزية والمجالس الشوروية إلى جانبها، وإن كانت ذات صيغ مختلفة عما هو قائم في عصرنا الحاضر أوجد نموذجاً ايجابياً لمؤسسة الحكم نحج في بلوغ المجد الذي تقف أمامه أجيالنا بإعجاب ودهشة. نعتقد أن تاريخ تلك الشعوب قد يكون درساً ثميناً لكل الشعوب الأخرى، يتعلمون منه أن الملك أو الرئيس، أو الحكومة وأجهزتها - كما في وقتنا الحاضر - هم مناصب قائمة لحفظ توازنات المجتمع، والحيلولة دون استقواء قوة على أخرى، أو تفجير فتنة من شأنها نسف النظام والسلامة الاجتماعية، علاوة على كونها تمثل مركز صنع القرار الوطني.. وبالتالي فهي الجهة المأمونة على مصالح الشعب، والتي تتحمل المسئولية الأولى إزاءها. لكن خلال الأيام الماضية،وجدنا في اليمن أسلوباً فريداً لآلية صنع القرار السياسي.. فعلى الرغم من ان هناك اعتقاداً لدى الخبراء الاستراتيجيين بجواز اطلاق يد الرئيس أو الملك في زمن الحرب.. أو التحديات الخطيرة، ليتصرف بغير عودة إلى بقية مؤسسات السلطة ، كالتشريعية باعتبار ان الظرف لا يحتمل انتظار وجدل مناقشات جانبية؛ لكننا وجدنا الرئيس علي عبدالله صالح يفرض على الجميع العودة إلى مجلس النواب ومجلس الشورى والأحزاب والمنظمات في اتخاذ القرار بشأن احداث الشغب أو ما أشيع من ثقافة كراهية، في إطار ما يمكن ان يتحقق من حوار وتشاور.. وهذا جانب من الحكمة السياسية والحنكة القيادية التي يتمتع بها الرئيس صالح نظراً لحساسية المرحلة والفتنة ذاتها، ومن أجل الحيلولة دون انفراط عقد الوحدة الوطنية أو فسح المجال للبعض للعب بأوراق سياسية خطيرة. وهنا يمكن ان نرى الجانب الآخر من ثقافة تطبيق القانون والنظام، وذلك بالاعتماد على الشعب نفسه لفرض إرادته الشعبية، باعتبارها القانون الأول الذي يخضع السلطة والشعب لخياراتها.. وعليه فإن مثل هذا النظام يضع الجميع أمام مسئولية أداء واجباته ومسئولياته تجاه الوطن، وحماية أمنه واستقراره. في الظروف الحرجة التي تواجه فيها الدول تحديات معينة، لا يحتاج المرء إلى شرطي ليخبره أن عليه عدم السماح لأية فئة أو شخص القيام بنشاط إرهابي مثلاً ، أو الترويج لفتنة مذهبية أو اثنية أو ما شابه.. ولا يحتاج المواطن إلى بيان من وزارة الداخلية يحثه على توعية الناس من أبناء حارته أو قريته بخطورة الفتنة والنشاط الإرهابي، والتخريبي المتربص بالوطن.. أو توضيح ما لبس من الأمر على بعض الناس، وتفنيد الاشاعات المغرضة التي تستهدف وحدة الوطن وسيادته وأمنه واستقراره. هناك أمور يمليها الوضع الذي آلت آليه اليمن من ديمقراطية، وحريات، وحقوق، وغيرها من التحولات التي جعلت من اليمن ليس ملكاً موروثاً لملك أو سلطان أو رئيس، بقدر ما أصبح كل شيء بيد الشعب اليمني تقريره، بما في ذلك رئيس الجمهورية الذي يجري انتخابه بالاقتراع الحر والمباشر، مثلما جرى عليه الأمر يوم العشرين من سبتمبر عام 2006م. إذن القانون لم يعد شريعة الحاكم بل شريعة المواطن الذي يضعه عبر مؤسسته البرلمانية التي تضم تحت سقفها ممثليه الذين اختارهم عبر صناديق الاقتراع ، وبالتالي فإن مسئولية حماية القانون واحترامه وتنفيذه هي مسئولية مناطة أيضاً بمن شرع هذا القانون، وصادق عليه وليس بالدولة وحدها؛ لان الدولة تمتلك أدوات ضبط وحماية تنفذ أوامر ذلك القانون، وتوجهات القضاء الذي هو أيضاً جهاز غير تابع للسلطة الحاكمة. واليوم اليمن تواجه تحدياً بوجهين : الأول : مسلح والثاني تحد ثقافي وفكري.. فإذا كانت الدولة تمتلك أدوات مواجهة التحدي المسلح بما خولها فيه الدستور، فإن على الشعب أن يواجه التحدي الثقافي والفكري من خلال قطع دابر أي خطاب فئوي، أو مناطقي، أو انفعالي متشنج، وكذلك تحصين البيئة من أية أبواق ناعقة بالفتن ومروجة للاشاعات والأكاذيب بقصد زج الوطن في أتون صراع دموي..فالقانون هو اتفاق على مبادئ ممارسات آمنة تتحقق بها مصالح الجميع، وعندما تخرج فئة عن هذا الاجماع فذلك يعني انها شذت، ويجب ارغامها على الانصياع للإرادة الشعبية العامة.