تطبيق القوانين أساس أمن واستقرار أي بلد ، وعندما يغيب القانون أو تتهاون أدواته التنفيذية في ترجمة أحكامه إلى أفعال ، لن تكون السلطة هي المعرضة للخطر ، بل كلنا نصبح موضعاً للتهديد، ونتحول إلى كائنات مباحة لشريعة الغاب مثلما هو حاصل على أرض بلاد الرافدين. كان البابليون الأوائل في العراق يحيون عيداً اسمه (عيد الأكيتو) ، وفيه يصعد الملك إلى أعلى برج بابل برفقة رجل الدين، الذي حالما يصل القمة يبدأ بتجريد الملك من أوسمته ، وحلله الملكية ، وجلبابه ، ثم يعلن على أهالي بابل المحتشدين حول البرج بأن الإله (مردوخ) جرد الملك من سلطاته .. فيهيج الناس ، وتأخذ بالاعتداء على بعضها ، وإحراق بيوت البعض ، وتشيع الفوضى .. لكن مع انتصاف النهار يبدأ رجل الدين باعادة كل شيء للملك ، ثم الإعلان بأن الإله (مردوخ) أمر بإعادة السلطة للملك .. وحينئذ تتسامح الناس وتعتذر من بعضها ، وتعيد إصلاح ما خربته .. الفكرة من هذا العيد حسب المؤرخين هو تأكيد قيمة القانون والسلطة المتمثلة بالملك في حفظ النظام ، والحقوق، وحماية الممتلكات .. لأن الملك يمثل سلطة العدالة والأمن والاستقرار. هذه الفكرة قد تكون درساً ثميناً لكل الشعوب ، يتعلمون منه أن الملك أو الرئيس ، أو الحكومة وأجهزتها كما في وقتنا الحاضر هم مناصب قائمة لحفظ توازنات المجتمع ، والحيلولة دون استقواء قوة على أخرى ، أو تفجير فتنة من شأنها نسف النظام والسلامة الاجتماعية، علاوة على كونها تمثل مركز صنع القرار الوطني .. وبالتالي فهي الجهة المأمونة على مصالح الشعب، والتي تتحمل المسئولية الأولى إزاءها. لكن خلال الأيام الماضية، وجدنا في اليمن أسلوباً فريداً لآلية صنع القرار السياسي .. فعلى الرغم من أن هناك اعتقاداً لدى الخبراء الاستراتيجيين بجواز إطلاق يد الرئيس أو الملك في زمن الحرب، أو التحديات الخطيرة ، ليتصرف بغير عودة إلى بقية مؤسسات السلطة كالتشريعية باعتبار أن الظرف لا يحتمل انتظاراً وجدلاً ومناقشات جانبية ، لكننا وجدنا الرئيس / علي عبدالله صالح، يفرض على الحكومة ضمن أجهزتها الأمنية والدفاعية العودة إلى مجلس النواب ومجلس الشورى في اتخاذ القرار بشأن فتنة التمرد في صعدة .. وهذا جانب من الحكمة السياسية والحنكة القيادية التي يتمتع بها الرئيس صالح نظراً لحساسية المرحلة والفتنة ذاتها ، ومن أجل الحيلولة دون انفراط عقد الوحدة الوطنية أو فسح المجال للبعض للعب بأوراق سياسية خطيرة. وهنا يمكن أن نرى الجانب الآخر من ثقافة تطبيق القانون والنظام ، وذلك بالاعتماد على الشعب نفسه لفرض إرادته الشعبية باعتبارها هي القانون الأول الذي يخضع السلطة والشعب لخياراتها .. وعليه فإن مثل هذا النظام يضع الجميع أمام مسئولية أداء واجباته ومسئولياته تجاه الوطن ، وحماية أمنه واستقراره. في الظروف الحرجة التي تواجه فيها الدول تحديات معينة ، لا يحتاج المرء إلى شرطي ليخبره بأن عليه عدم السماح لأية فئة أو شخص بالقيام بنشاط إرهابي مثلاً أو الترويج لفتنة مذهبية أو أثينية أو ماشابه .. ولا يحتاج المواطن إلى بيان من وزارة الداخلية يحثه على توعية الناس من أبناء حارته أو قريته بخطورة الفتنة والنشاط الإرهابي المتربص بالوطن .. أو توضيح ما لبس من الأمر على بعض الناس، وتفنيد الإشاعات المغرضة التي تستهدف وحدة الوطن وسيادته وأمنه واستقراره. هناك أمور يمليها الوضع الذي آلت إليه اليمن .. من ديمقراطية ، وحريات ، وحقوق ، وغيرها من التحولات التي جعلت من اليمن ليس ملكاً موروثاً لملك أو سلطان أو رئيس، بقدر ما أصبح كل شيء بيد الشعب اليمني تقريره بما في ذلك رئيس الجمهورية الذي يجري انتخابه بالاقتراع الحر والمباشر ، مثلما جرى عليه الأمر يوم العشرين من سبتمبر الماضي. إذن القانون لم يعد شريعة الحاكم بل شريعة المواطن الذي يضعه عبر مؤسسته البرلمانية التي تضم تحت سقفها ممثليه الذين اختارهم عبر صناديق الاقتراع .. وبالتالي فإن مسئولية حماية القانون واحترامه وتنفيذه هي مسئولية مناطة أيضاً بمن شرع هذا القانون ، وصادق عليه وليس بالدولة وحدها ، لأن الدولة تمتلك أدوات ضبط وحماية تنفذ أوامر ذلك القانون ، وتوجهات القضاء الذي هو أيضاً جهاز غير تابع للسلطة الحاكمة. واليوم اليمن تواجه تحدٍ بوجهين : الأول : مسلح ، والثاني تحدٍ ثقافي وفكري .. فإذا كانت الدولة تمتلك أدوات مواجهة التحدي المسلح بعد أن عادت إلى البرلمان ، فإن على الشعب أن يواجه التحدي الثقافي والفكري من خلال قطع دابر أي خطاب فئوي ، أو مذهبي ، أو انفعالي متشنج ، وكذلك تحصين البيئة من أية أبواق ناعقة بالفتن ومروجة للإشاعات والأكاذيب بقصد زج الوطن في أتون صراع دموي .. فالقانون هو اتفاق على مبادئ ممارسات آمنة تتحقق بها مصالح الجميع ، وعندما تخرج فئة عن هذا الاجماع فذلك يعني أنها شذت ، ويجب إرغامها على الانصياع للإرادة الشعبية العامة.