عندما تأسست جامعة صنعاء في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حملت وقتها لليمنيين وعداً بالتغيير، والارتقاء بالعقل، والمساهمة في النهضة المنشودة عبر البحث العلمي.. وبالفعل حققت لبعض الوقت جزءاً من هذا الوعد، لكنها ومنذ سنوات عديدة تحولت إلى ما يشبه الكيان الغائب رغم وجوده، فالبرغم من فتح عدد من الكليات الفرعية والتي كان ينتظر منها أن تعمل على تحديث المنطقة التي فتحت بها هذه الكلية أو تلك أصبحت مجرد أماكن يتخرج فيها آلاف الأشخاص سنوياً دون أن يحصلوا على تعليم حقيقي يؤهلهم تأهيلاً حقيقياً في مجال تخصصهم. وإذا كان هذا هو وضع جامعة صنعاء الجامعة الأم، فكيف ببقية الجامعات الاقليمية التي خرجت من رحم جامعة صنعاء؟!. واقع الحال يقول إن هذه الجامعات تعيش حالة تدهور، وإن البحث العلمي غير موجود، وإن هذه الجامعات لا تحترم العلم من أساسه، ووضع العقبات الاجرائية في طريقه، فالكليات العلمية بلا معامل حديثة، وثمن المعامل يتم سرقته بطرق بشعة، وبعضها بلا معامل أصلاً، أما الكليات النظرية فتعاني من مشكلات كبيرة تصبح معها كلمة "البحث العلمي" مجردة من المعنى. إن المشكلة تكمن في عدم احترام روح البحث العلمي وعدم رسوخ قيمه وطرقه، حيث يركز الطلاب على نيل الدرجة أو الشهادة، وفي حالة وجود طالب متحمس للبحث والدراسة ولديه شغف حقيقي بالعلم تتم محاصرته بالتعقيدات الإجرائية والبيروقراطية وعدم احترام الاختلاف. أما المكتبات فتفتقر للدوريات والكتب الحديثة، بالرغم من الميزانيات المرصودة لمثل ذلك، أما الأقسام العلمية فقد تحولت إلى جماعات متناحرة، تؤثر الخلافات بينها على الموضوعية والنزاهة. ومن يزر جامعة صنعاء سيلاحظ حضور التيار الديني بشكل لافت للانتباه، فقد تركت هذه الجامعة فريسة لهذا التيار الذي أصبحت بعض الكليات مغلقة عليه كالتربية واللغات، بالإضافة إلى تواجده في الكليات الأخرى بشكل كبير. والملاحظ أن الأنشطة الطلابية يسيطر عليها هذا التيار، ومن يتجول في كلية الآداب سيجد الشعارات التي تنتصر لحماس وصناديق التبرعات والأناشيد، وسيعتقد لأول وهلة أنه في غزة وليس في قاع صنعاء!. وإذا توقفنا أمام الكتاب الجامعي، فإننا لا نجد كتباً لأساتذة يمنيين عدا كتاب الثقافة الإسلامية، وكتاب العربي وهما من المتطلبات الجامعية، وهذان الكتابان ضحلان لا يقدمان سوى الجهل، وكل ما يأخذه الطالب هو عبارة عن ملازم في كل الكليات العلمية والنظرية. حتى طالب الطب؛ كل معلوماته هي عبارة عن ملازم ضحلة القيمة، يقررها الأساتذة على الطلاب بغرض الاسترزاق، ويصل الأمر أحياناً إلى التهديد بالرسوب في حالة الامتناع عن الشراء. إن الاعتماد على الملازم يهدد منظومة التعليم، لأن الاعتماد على الملزمة يؤصل لدى الطالب قناعة بأن المعلومات المتضمنة في هذه الملزمة هي الأساس والأصل مما يفسح الطريق للتلقين والحفظ والاسترجاع وقتل فكرة البحث والتأمل والاستنتاج والتحليل وكافة العمليات العقلية المسؤولة عن الإبداع. إن الفساد في الجامعات اليمنية أصبحت رائحته تزكم الأنوف، وهو فساد يسند بعضه بعضاً. وفي حقيقة الأمر فإن الجامعة لا تتحمل المسؤولية وحدها، فهي ليست سوى استمرار للتعليم المدرسي القائم على التلقين، وعلى نظام الامتحانات، حيث يعيد الطالب لأستاذه ما أعطاه له هذا الأستاذ على مدى العام، إنه تعليم لا يقوم على البحث العلمي ولا على تنمية القدرات النقدية والإبداعية. ولا نغالي إذا قلنا إن المكتبة المركزية مكتبة ثمينة جداً ولكنها ليست حديثة، من يدخل هذه المكتبة يجد كتباً قديمة، لكنه لا يستطيع أن يحصل على الدوريات الجديدة، فالمفروض في أية جامعة محترمة أن تكون مشتركة في قاعدة بيانات كي تتيح لطلابها الإطلاع على الدوريات الجديدة في التخصصات المختلفة. نحن بحاجة لإعادة النظر في هذه المؤسسة المهمة، فهناك تدهور، هذا التدهور له أسباب عديدة ومركبة، من بين أسبابه القيادات الجامعية وتدهور أوضاع هيئة التدريس وتدهور التعليم في المدارس. وإذا كان الأمر على هذا النحو في الجامعات الحكومية، فكيف هو في الجامعات الخاصة؟!. لا تعدو الجامعات الخاصة ان تكون مجرد "بيزنس" أو نوع من الاستثمار بلا مضمون علمي حقيقي، وانها مجرد سوبر ماركت للشهادات الجامعية، وبعضها تقوم على التعليم الديني المتشدد وتأهيل المتطرفين لضرب المستقبل وإعاقة الحداثة. والجامعات الخاصة مازالت تعمل بلا قانون، ومما يؤسف له أن وزير التعليم العالي قد حضر حفل تخرج جماعي لهذه الجامعات ليكون ذلك نوعاً من الإعلان والترويج لهذه الجامعات، هذه الجامعات سيكون لها تأثير خطير على مفهوم الانتماء الوطني. وفي الوقت الذي ينتظر الشارع اليمني عملية التغيير في الجامعات، نجد رؤساء الجامعات كلهم تقريباً يترددون على أبواب المسؤولين وطلب دعمهم في البقاء بالرغم من تورطهم في قضايا فساد منظور بعضها أمام الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والهيئة العليا لمكافحة الفساد.. إن وضع الجامعات، أضحى ساطعاً، من فرط هشاشته، ولكن حال هؤلاء وتشبثهم بهذه المواقع يبعث على الاشمئزاز في وجوه المواطنين المتفرجين والمستمعين، وفي استنتاجاتهم. فهؤلاء يظهرون إفلاسهم وعبثية المجهود الذي يقدمونه في سبيل الدفاع عن مواقع لم يقدموا من خلالها شيئاً يخص الوطن سوى ما يخص حساباتهم ومصالحهم. إن رؤساء الجامعات، وبحكم المفارقة العجيبة، أحيوا الملكية الخاصة التي أراد الوطن طردها من مسرح التاريخ. لقد ألحقوا الضرر بالجامعات وحولوها إلى ممتلكات خاصة، منتهين بالجامعة إلى فكر سلفي يحاول إعادة ما سمي بمعارك المصير.. وها هي كليتا التربية واللغات أصبحتا مدرعتي بحاملي البطائق المزدوجة؛ لكنهم ينتصرون للأفكار السلفية، ويفخخون المستقبل، ويقومون بمهمتهم على أكمل وجه. لقد خرجت الجامعة عن مدارها، وهاهم المتشبثون بالبقاء على رأس الجامعة يتوعدون بحماية ما يؤذي الوطن. [email protected]