التربية عملية اجتماعية متصلة ومتبدّلة، تلعب فيها الظروف والبيئة المحيطة، والملابسات التي تكتنف حياة النشء والشباب دوراً حاسماً وأساسياً، سواء في تقدمها أو في إعاقتها عن بلوغ كثير من الأهداف. ولقد أجمع كثير من علماء السياسة والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب، فضلاً عن الترهيب، وعلى هذا بنوا قولهم:«إن المدارس تقلل من الجنايات لا السجون. ووجدوا أن القصاص والمعاقبة قلّما يفيدان في زجر النفس». لقد فطنت كثير من الأمم والشعوب مبكراً إلى أهمية وخطورة قضية التربية، وسخرت لها كثيراً من مواردها المادية والبشرية، وهيأت لها كل سبل وأسباب النجاح، وبذلت للمربين والمعلمين في مراحل التعليم الأولى كافة التسهيلات والمحفزات من أجل تنشئة الأجيال تنشئة سليمة، وإعدادهم إعداداً جيداً، لعلمها أن المعلم والمربي الفاضل قدوة لجميع الأجيال التي تتربى على يديه، وتكتسب كثيراً من سلوكياتها في مراحل العمر التالية منه. وبهذه الطريقة بنيت تلك المجتمعات وتجاوزت كثيراً من مشاكلها وأزماتها، وارتقت في مصاف الدول المتقدمة في جميع المجالات، وأحسب كلمة السر في تقدم كثير من الأمم والشعوب هي الاهتمام بالتربية والتعليم، والاهتمام ببناء الإنسان المواطن القادر على البناء والعطاء. دون شك إن المعلم والمربي الواعي والمنصف يستزيد دائماً في الوسائل المجدية والقواعد التربوية المؤثرة في تربية وإعداد النشء والأطفال في المجتمع عقدياً وخلقياً، وفي تكوينهم علمياً ونفسياً واجتماعياً، حتى يبلغوا أسمى آيات الكمال، وأعلى ذرى النضج، وأزهى مظاهر التعقل والاتزان، لكن ترى ماهي الوسائل المجدية والقواعد التربوية المؤثرة في تكوين شبابنا وأطفالنا؟ في تقدير بعض الباحثين أن هذه العوامل تتركز في خمسة أمور، تندرج في أهميتها، وهي : التربية بالقدوة، التربية بالعادة، التربية بالموعظة، التربية بالملاحظة، والتربية بالعقوبة. وجميعها تحتاج منا إلى وقفات لايتيحها الحيز المخصص لهذه التناولة، وحسبنا أن نتناول إحداها، وربما أهمها، نعني التربية بالقدوة، لعلمنا أن مجتمعنا في أمس الحاجة إليها بعد أن عز المثال والقدوة في كثير من مناحي حياتنا، ربما يتاح لنا فرصة قادمة لباقي الأنواع.. تتعدد وسائل التربية بالقدوة، وتشمل: قدوة العبادة، وقدوة الأخلاق الفاضلة، وقدوة الكرم، وقدوة الزهد، وقدوة التواضع، وقدوة الحلم، وقدوة القوة الجسدية، وقدوة الشجاعة، وقدوة حسن السياسة، وقدوة الثبات على المبدأ، وهي كلها قيم نحتاجها في مجتمعاتنا المعاصرة، لأنها تجنبنا كثيراً من المشاكل والأزمات، وتحفظ وحدتنا وهويتنا وقيمنا وعقائدنا وأخلاقنا، وتعزز مظاهر التضامن والتلاحم الاجتماعيين، وتقي مجتمعاتنا عوادي الزمن وغوائله. ولانبالغ إن قلنا: إن مجتمعنا اليمني يفتقد كثيراً هذا النوع من التربية، وأنه ربما قد يعمد إلى نقيضها، وأن جيل الحاضر ورجال المستقبل يفتقدون اليوم القدوة الحسنة التي تبرز لهم الفروق بين الحسن والقبيح، والصحيح والصواب من الخطأ، والمقبول عن غير المقبول، والشرعي من غير الشرعي، وهكذا مع كل فعل أو تصرف يقترفه الشاب أو الطفل الصغير، فإما أنه لايجد من يقوّم سلوكه ويوجهه وجهة سليمة، وإما أنه يجد أمامه قدوة سيئة تأخذ بيده نحو ارتكاب الأعمال والتصرفات غير الصائبة، وتزينها له. وواقعنا اليوم يشي بعشرات، بل قل مئات من الأمثلة عن القدوة غير الحسنة التي نكرسها في ذهن وعقل الطفل والناشئ، ففي البيت والمسجد والمدرسة والجامعة، وفي أماكن العمل وأغلب مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني يتلقى الطفل والشاب اليمني عشرات الرسائل الخاطئة التي تحثه على ارتكاب جرائم الغش وتزين له الفعل القبيح، وتبرر له الجرم المرتكب، إن لم يكن بصورة مباشرة، فعن طريق القدوة التي ترسخ في ذهنه أن تلك الأفعال تدخل في خانة المطالب الحقوقية المشروعة، والحرية، أو تأتي في باب الفهلوة والشطارة والحذق، وأخواتها. ولم لا.. فمنظومة القيم الدينية والوطنية السائدة باتت في نظر كثير منا بالية متهالكة والأخلاق أضحت موضة قديمة لاتناسب ثقافة السوق الحر، وعصر الستالايت والفضائيات والتكنولوجيا، والتسابق على انتهاز الفرص يبرر استعمال أقصر الطرق وأيسرها للوصول إلى نيل المراد وتسلق المراتب، وتكديس الثروات، ولو عن طريق النصف والخداع، والغش، والتزوير، وشراء الذمم، وتقديم الرشى والواسطة، والاتصالات الهاتفية المتصلة، وعرض جيهان الله، وغيرها من الأساليب التي تدفع المرء منا إلى الاندهاش والتعجب لكثرة الحيل والأساليب التي يمتلكها هؤلاء، وطول البال الذي يتمتعون به، وليته استخدم في موضعه المناسب. أعجب من هذا، غدا التمسك بالقيم والأخلاق الحسنة، ومحاولة الابتعاد عن كل تلك الأمراض الأخلاقية، من باب الضعف وقلة الحيلة، وفقدان الظهر أوالسند، أوالواسطة، أو المثالية الزائدة، والعيش في المدينة الفاضلة، أو خيال عقلي ناجم عن مرض مزمن يحتاج صاحبه أن يعرض على طبيب للأمراض العقلية لكي يبرأ منه، وربما حتى التماس حلول لدى المنجمين والسحرة، وما وراء الطبيعة. إنها القدوة المفقودة التي تقف خلف كثير من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي تعانها مجتمعاتنا اليوم، وليس من سبيل إلى معالجة هذا الغياب إلا من خلال العودة إلى التمثل بالقدوة الحسنة، وتمسكنا جميعاً بالأخلاق الاسلامية الحميدة، وليكن كل واحد منا قدوة في منزله وبين أفراد أسرته، وليتمثلها في سلوكه اليومي وفي تعاملاته مع غيره، وبعدها لينظر إلى من حوله، ويحاسب غيره و«كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه». ٭ جامعة إب