لم يكن وقع فاجعة الطائرة اليمنية المنكوبة قبالة سواحل جزر القمر على اليمنيين أقل منه على القمريين والفرنسيين، ذوي الجنسيات الأكثر على الطائرة.. لقد كانت فاجعة وطنية بمعنى الكلمة، وهي المرة الأولى التي تشهد فيها اليمن فاجعة يذهب فيها ضحايا من جنسيات مختلفة بهذا الحجم، فضلاً عن كونها الحادثة الأولى التي التحقت بسجل نظيف للسلامة في طيران اليمنية، وحتى اللحظة لا زال اليمنيون يترقبون، ما قد يستجد من نتائج عن عمليات البحث والتحقيق في أسباب سقوط الطائرة،. يجمع اليمنيون - على الأقل من يرتبط منهم بمهام السفر المختلفة - على كفاءة طواقم الطائرات اليمنية، ويلمسون ذلك من خلال سلاسة الاقلاع ونعومة الهبوط - وهو ما تقول ثقافتهم المتواضعة أنه أخطر مراحل السفر- ما جعل اليمنية مدرسة تخرج منها العديد من الطيارين الذين يعملون حالياً في عدد من أعرق شركات الطيران العربية والدولية. يدرك العالم أيضاً أن سمعة طيبة وسجلاً مشرفاً ونظيفاً ارتبطا بطيران اليمنية لمئات الملايين من الساعات الجوية بين أكثر من ثلاث وعشرين محطة عربية ودولية، رغم تواضع امكانياتها ومحدودية مقدرات الدولة التي تملكها، ما يجعلها الأكثر بعداً عن الاتهام لمجرد حادثة تشير كافة المعطيات الأولية إلى أنها كانت خارجة عن إرادة كابتن الطائرة، الشهيد خالد حاجب رحمه الله - إن كان قد توفاه- صاحب السجل المشرف في الطيران أيضاً (يشير رصيده إلى ما لا يقل عن 8 آلاف ساعة طيران سليمة). ما ليس معتاداً في حوادث الطيران هو الهجوم الاستباقي اللاأخلاقي الذي تعرضت لها شركة الخطوط الجوية اليمنية صبيحة الحادثة، إذ كانت الشركة "الناقل الوطني" للجمهورية اليمنية والناقل الرسمي لجمهورية جزر القمر، على موعد مع حملة تشهير شعواء خالية من اللياقة والكياسة تورط فيها - للأسف - مسؤولون فرنسيون، وكأن الباعث على ذلك فقط ان الطائرة المنكوبة مملوكة لإحدى دول العالم الثالث. استيقظ وزير النقل الفرنسي دومينيك بوسيرو صباح الثلاثين من يونيو الماضي، ليكيل التهم لطيران اليمنية بأنها تستخدم طائرات خارج الجاهزية، ليكون تصريحه ذاك موجهاً لإعلام بلاده وبعض إعلام الاتحاد الاوروبي الذي يضج الأسماع بدروس الحياد... أكثر من ذلك، لقد مثّل هذا التصريح تحريضاً للرأي العام ضدها، وتجلى ذلك في مهاجمة اربعة مكاتب تابعة للخطوط اليمنية في مارسيليا الفرنسية من قبل محتجين قمريين أثارتهم التصريحات بسوء خدمات الطائرة، وبعدها كان وزير الخارجية الفرنسي كوشنير يصرح أن الجميع كان على علم بعيوب الطائرة و"أنها ليست مسألة انتقام، إنها ليست مسألة مسؤولية. 66 فرنسيا قتلوا بالإضافة إلى كثيرين من جزر القمر وآخرين أيضا". بالنسبة لليمنيين فهم ينظرون إلى نكبة انسانية ذهب ضحيتها 152 شخصاً من جنسيات مختلفة وليس إلى 6 يمنيين فقط كانوا ضمن طاقم الطائرة. إنها ليست مسألة انتقام، بل حالة غضب لم تتعاف بعد، فشهر يونيو اختتم بحادثة ايرباص اليمنية، وافتتح باختفاء أو تبخر طائرة اير فرانس العملاقة في المحيط الهندي أثناء رحلتها من ريودي جانيرو البرازيلية وباريس الفرنسية لتذهب أدراج الرياح ومعها 228 راكباً غالبيتهم من البرازيليين والفرنسيين، ولم يعلم عنهم شيء إلا بعد اسبوع تقريباً من الحادثة، والجميع يتفهم صعوبة الحادثتين بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين ولشركاتهم كما هو صعب بالنسبة لليمن أيضاً، لكن "اليمنية" افتقدت جانباً حصيفاً يتفهم ظروف حوادث الطيران، كما فعل البرازيليون مع "اير فرانس"، الذين لم يبنوا اتهاماً واحداً حتى اللحظة ضد الفرنسيين، مفضلين انتظار التحقيق الذي لا يوجد له من رصيد سوى الاحتمال "العديم" بالعثور على الصندوق العجيب في أغوار الاطلسي، في حين يتعامل الفرنسيون بعدامة تامة مع اليمنية مصرين على استباق التحقيقات في موقف بات يبعث على الشكوك في كل اتجاه، ويُحمّل الحادثة تأويلات ربما لا تحتملها، خصوصاً في ظل ما تردد من اتهامات من هنا وهناك عن احتكار الفرنسيين لجهود الانقاذ في مكان تحطم الطائرة، وعدم التعاون مع اليمنيين والقمريين في إطار المساعي للاستحواذ على الصندوقين الاسودين وربما الجثث وحطام الطائرة، رغم أن القانون الدولي يعطي أولوية البحث عن حطام الطائرة للدولة المالكة لها وللدولة التي ينتمي إليها غالبية الضحايا والدولة التي وقعت فيها الحادثة، وكل تلك المعطيات أصبحت تعزز الفرضية القائلة بتعرض الطائرة لهجوم خارجي تسبب في إسقاطها. الاعلام الفرنسي هو الآخر تخلى عن حياده الاسطوري ليفتح الباب أمام قمريين غاضبين للحديث عن حشر المسافرين ك"الحيوانات" في مقصورة الطائرة التي تقلهم إلى موروني، مع أن من يسافرون على اليمنية إلى محطاتها المختلفة في دول القرن الافريقي يدركون أن اليمنية تتعامل مع المرحّلين صوماليين كانوا أو اثيوبيين أو ارتريين كما تتعامل مع دافعي أسعار التذاكر من المسافرين الطبيعيين، بما في ذلك إلزامهم بوسائل السلامة، وتقديم الوجبات والخدمات وغيرها، وهو ما يدحض الاتهامات بالتعامل "الحيواني" مع المسافرين إلى جزر القمر! عموماً، لا يمكن الحديث عن خلل في الطائرة ما لم توجد أدلة دامغة على ذلك، ونحن جميعاً نؤيد محاسبة المتسببين في سقوط الطائرة حال ثبت تورط أو تقصير جهة في ذلك، وهو ما أكدته تصريحات لمسؤولين فرنسيين وأوروبيين في شركة ايرباص الذين فضلوا عدم الحديث حتى تنتهي التحقيقات، وكان الابرز فيها تعليق اليساندرا زامبييري مسؤولة قضايا السلامة الجوية بالاتحاد الاوروبي على الحديث عن أدراج الطائرة اليمنية ضمن القائمة السوداء لشركات الطيران، "الطائرة قامت برحلات إلى أوروبا ولم يشر أي بلد إلى وجود خطورة فيها وينبغي انتظار نتائج التحقيق، ونحن لا نقرر إدراج اسم شركة في القائمة السوداء لمجرد وقوع حادث(...) ولا علاقة للأمر بالسياسة"، هذا التصريح يغني عن الاتهامات ويضع في الاعتبار كل الاحتمالات الواردة بدلاً من الشطط في اتهام الحلقة الاضعف في الحادثة. و ذلك ما أكده أيضاً رئيس جزر القمر الذي طلب من السياسيين عدم السعي الى توظيف هذه المأساة سياسيا احتراماً للموتى، ورغم ذلك يصر بعض المسؤولين الفرنسيين تسييس القضية حيث كرر وزير النقل الفرنسي تصريحاته بتهديد اليمنية بإدراجها ضمن القائمة السوداء التي ستُحدّث في غضون عشرين يوماً "عليها - أي اليمنية- بذل جهود هائلة إذا كانت تريد عدم إدراجها في القائمة"... لم يفلح الوزير الفرنسي في صرف الانظار المتجهة إلى الجانب الفرنسي الذي يمارس إجراءات مريبة في عمليات البحث والتحقيق مستغلاً بذلك نفوذه في منطقة القرن الافريقي والمحيط الهندي، كذا لم يفلح في التأثير على القرار الأوروبي وذهبت تصريحاته أدراج الرياح وسجلت في رصيده كنقطة سوداء لاأخلاقية لم تراع حرمة الضحايا ولا قواعد التعامل الانساني في حوادث كهذه الجميع منكوب فيها. وجهت المفوضية الاوروبية صفعة قوية لكل هؤلاء، فقد أعلنت القائمة السوداء لشركات الطيران، وبكل بساطة لم تكن الخطوط اليمنية المفترى عليها ضمن القائمة... فالشركة التي كانت حديث الاعلام الاوروبي والفرنسي والعربي وحتى بعض الاعلام الوطني باعتبارها خارج الجاهزية، جددت لها الثقة كشركة ملتزمة بشروط السلامة... هذا الرد يكفي الآن وعليهم أن يفكروا بمسببات أخرى. مشكلة الخطوط اليمنية إذن مرتبطة بتوقيت نكبتها التي جاءت في ذات الشهر الذي وقعت فيه حادثة طائرة اير فرانس، ويبدو أن المسؤولين الفرنسيين يتجهون لاستغلال الحادثة الاخيرة للتغطية على سابقتها، أو أن مشكلة الفرنسيين أنهم يظهرون أنفسهم وكأنهم يفكرون فقط في المنافسة وفي المستقبل التجاري لشركة ايرباص قبل أن يفكروا في الجانب الانساني وسقوط مئات الضحايا جراء تحطم الطائرات التي يصنعونها... هذا ليس منطقاً بالمطلق، هناك بكل تأكيد سبب آخر وعليهم أن يفترضوا كل شيء كما فعلوا عندما تحطمت طائرتهم. الخطوط اليمنية تعمل منذ 17 عاماً تقريباً كناقل رسمي لجزر القمر، الدولة العربية الفقيرة التي لا تملك شركة نقل جوي وطنية، وبواقع ثلاث رحلات اساسية اسبوعياً، ولم يستطع أحد طيلة هذه الفترة المزايدة عليها، ولم يفكر أي من العرب والأوروبيين بتسيير رحلات إلى هذه الدولة المنسية، وبحسب أحد العاملين في الخطوط اليمنية الذين سألتهم عن جدوى تسيير 3 رحلات اسبوعية منتظمة إلى جزر القمر، عوضاً عن الرحلات الإضافية، أكد أن الأمر ليس مسألة جدوى، فأحياناً تقل حركة انسياب المسافرين وتخسر الخطوط اليمنية في كثير من رحلاتها، وهذا يدركه جيداً المسؤولون القمريون، لكن كما يفيد بتعبيره" تسيير الرحلات ضروري ولو كان هناك خسارة"، بتعبيرنا يمكن القول "إنه التزام، أياً كان هذا الالتزام تجارياً أم قومياً أم أخلاقياً أم إنسانياً".