مع أن المجتمع اليمني موصوف بأنه «قبلي» غير أن الكثير من المظاهر السلوكية الحالية فقدت عناصر المجتمع القبلي في نفس الوقت الذي تبتعد عن مظاهر التحول المدني الحضاري، وهو أمر في غاية الخطورة عندما يعجز المراقب عن تحديد هوية المجتمع ورسم ملامح تقريبية لصورته المستقبلية. إن المشكلة الثقافية التي تتحدث عنها بعض النخب السياسية والاجتماعية اليمنية لم تعد مجرد مشكلة أفراد أو فئات محدودة، تحاول الانسلاخ من انتمائها الوطني الوحدوي، أو مذهبها الديني، بل إن هناك تياراً قوياً أصبح يتبنى مثل ذلك الانسلاخ كمنهج عمل سياسي، وكإحدى غايات وجوده في الساحة الديمقراطية كما لو أننا أمام قوى معادية لليمن تعمل على طمس هويتها، وتذويب ولاء أبنائها في خليط هجين من الثقافات، والممارسات والعقائد والمذاهب والانتماءات. فالقبيلة التي يفترض بها حمل لون من العصبية للوطن، ولأعرافها بدأت في الانزلاق بمنعطفات سياسية ومواقف لا تدل اطلاقاً على أي انتماء للذات الوطنية، أو انحياز للمصالح العامة.. في نفس الوقت الذي يتم استغلالها في الحشد لمشاريع تارة تشطيرية، وتارة أخرى مذهبية، وتارة ثالثة سياسية دولية، تحت شعارات الحقوق والحريات والكرامة وغيرها من مفردات العصر الديمقراطي. غير أن هذا الاستغلال للقبيلة لا يحدث اعتباطاً، بل في أطر منظمة ومنهجية تقودها قوى سياسية تدعي مشاريع تغييرية وتطويرية للحياة اليمنية إلا أنها بدلاً عن الانتقال إلى المربع المتقدم من ثقافة العمل الديمقراطي، فضلت أن تقود مشاريعها التطويرية من حضيض مربع الماضي المتخلف، وأدواته الصدئة من خلال دعوة الجماهير إلى الالتفات مجدداً حول العصبيات القبلية من أجل الخروج من دائرة الوحدة اليمنية، خلافاً للمنطق الكوني الذي يجب أن تكون عليه مثل هذه الدعوات التي تصدر عن قوى سياسية معارضة. إن من أغرب مفارقات الديمقراطية المثيرة للقلق أن نشهد كل هذه المتناقضات في بلد لم تتجاوز عمر تجربته التعددية تسعة عشر عاماً..فهي ليست بالفترة الكافية للانقلاب على الذات الوطنية، والانسلاخ من الهوية الثقافية والجنوح باتجاه حالة من الفوضى واللاوعي. وفي الحقيقة لا أجد تفسيراً لما يحدث سوى أن القوى التي شغلت ساحة العمل الديمقراطي هي ليست القوى المعنية بالمشروع اليمني الحداثي، وإنما هي قوى انتهازية قفزت إلى الساحة لشغل فراغ مرحلة التحول التي صادفت الكثير من التحديات الصعبة والتطورات المحلية والاقليمية والدولية في أعقاب حرب الخليج الثانية، فانشغل الجميع في مواجهة هذه التحديات لتشق القوى الانتهازية طريقها إلى الساحة الديمقراطية وتعلن نفسها ممثلاً للقوى المخلصة، حتى إذا ما سنحت لها الفرصة مؤخراً أماطت النقاب عن الحقيقة التي نواجهها اليوم باستغراب كبير، وقلق أكبر مما يمكن أن تقود البلد إليه بفوضاها.