مِن فضلِ الله ونعمه على عبادهِ أن جعل لهم مواسم يحيون فيها بطريقة مختلفة عمَّا اعتادوه؛ ففي تغييرِ النظامِ الحياتي فوائد كثيرة ومنافع متعددة على الفرد والمجتمع، وما شهر رمضان بمدرسته الروحية و رسالته التطهيرية للنفس البشرية إلاَّ مثال صريح على هذه الفضائل والهبات الرَّبانية؛ إذ تعتدلُ طبائع النَّاسِ وتستقيم عاداتهم ويرتقي سلوكهم البشري فتصفّى الرواسب وتزول الضغائنُ ويتقارب البعداء وتزيدُ حركةُ الإحسان وينشط أهل الخيرِ في أعمال البرِ على كلِّ صعيد. هو رمضان .. شهر المحبة والصفاء والروح الذي يتوحد فيه الناس فيشعرون بأوجاع أفراد المجتمع , كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى.. فيمدون جسور التعاون على معالجة قضايا راهنهم وتعطف قلوبهم على ضعفائهم, في مشهد بهي من التراحم والتكافل والتآخي والتعاضد بين المسلمين. هو رمضان شهر عطاء وإقبال وبذل وكرم وإحسان ؛ شهر القرآنِ والصدقات والصفاء والصدق.. ولأنه كذلك فإننا نرى أن الكثير من المظاهر والشمائل الحميدة تجد حضورها في حياة الأمَّةِ المحمَّديةِ التي يتوقُ شُبَّانُها وشابَّاتُها لاستلهام عظمة هذا الشهر الكريم فتكون أيامه ولياليه منارات ومرتكزات وشواهد لنُصرة دينِهم وكتابِ ربِّهم وسنَّة نبيهم- عليه الصلاةُ والسلام- عبادة وعِلمَاً وعملاً ودعوة؛ ومواسم باهرة استقطاباً وتحسيناً وتغييراً ونقلة لحياة أفضلِ وبثاً للروحِ الوثابة بالبهجة والحبور . ثمة مظاهر حاضرة في العديد من مدننا اقترنت بهذا الشهر المعظم ينبغي أن نحافظ عليها , ففيها معانٍ ودلالات عميقة ومن تلك المظاهر التي توارثها الأبناء عن الأجداد عادة «الختايم» في مدن حضرموت التي تتحول إلى مزارات للتراحم والتقارب بين الأهل والأقارب.. وفي السنوات الأخيرة أصبحت هذه المظاهر لها حضور رائع سواء من حيث الجماهيرية أو روعة التنظيم وعرض ملامح من الإرث الفلكلوري والشعبي من عادات وتقاليد وأزياء. ففي مدينة المكلا - مثالاً - تتنافس الأحياء في تقديم «ختايم» متميزة ويتفنن الشباب في طرائق بديعة لجذب الجمهور من حيث عرض ذلك الموروث بتجلياته البديعة والتذكير به .. وعادة «الختايم» كما هو معروف من العادات الرمضانية الجميلة التي تشتهر بها العديد من مدن حضرموت حيث يكون مناسبة لختم المساجد للقرآن الكريم كما أنها مناسبة للاحتفاء بالمواليد و « العروسة» الجديدة أيضاً..فتختلط الموشحات والأهازيج والأغاني الفرائحية بصوت موال جميل يعيد التألق والروح لذلك الموروث العظيم ..هذا جانب ايجابي لكن الشكل الجديد الذي أدخل على مظاهر حياة رمضاننا والمبالغ بها هي تلك الموائد من حفلات الإفطار الجماعية التي تدعو إليه بعض المؤسسات والجمعيات و التنظيمات السياسية - أيضاً - حيث يتم تنظيم إفطار جماعي أو موائد رمضانية يفترض أن تكون للفقراء والأسر معدمة ومحدودة الدخل , لكن هذه الموائد التي تمتلئ باللحوم والأرز بذخ ومبالغة ومغالاة وإسراف وتبذير لا تدل بأنها موجهة لهذه الشرائح ولا توحي بأن هناك فقراء ومحتاجين في مجتمعنا , فتكون هذه المظاهر والبذخ المبالغ فيه تبذيراً ومالاً أنفق في غير محله كان أحرى أن يرشّد وينفق بشكل أفضل..والجديد في الأمر أن هذه الموائد والإفطارات الجماعية انتقلت من المواقع العامة وساحات المساجد إلى الفنادق الفخمة " وكله بفضله " فطبيعي أن لا ترى فقيرا أو محتاجا يفترش تلك الموائد , لسبب بسيط بأن هؤلاء - أي الفقراء والمحتاجين - يلزمون بيوتهم (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) فالمفترشون على موائد "اللحوم والأزر " هم من المسئولين والوجهاء والأقارب والمقتدرين والحزبيين والمؤلفة قلوبهم .فحري بمن يقدم ويسعى في هذا الشهر الفضيل لمساعدة ودعم الفقراء والمحتاجين أن يبحث ويجد وسائل أخرى أجدى وأنفع من " موائد اللحوم والأرز " , كان الأجمل استثمار تلك الأموال التي تنفق في غير مواضعها في مشاريع تعود بالنفع على الشرائح الاجتماعية الأكثر حاجة في مجتمعنا.. فتكون بلسماً لهم وترسم في شفاههم البسمة والرضا.