كلما اتجهت برأسي صوب صعدة ، وما يدور فيها ، كلما تذكرت الزمن السبتمبري الذي فجر فيه أحرار اليمن ثورة 1962م ، وتيقنت كم كان الرئيس عبدالله السلال محقاً ودقيقاً في وصفه لما حدث يوم السادس والعشرين من سبتمبر بالقول :« إنها ليست ثورة ، بل معجزة»!. عندما نتصفح وثائق الثورة ، ونقف أمام مشاهد الرؤوس المتدلية من أعلى باب اليمن ، والرجال العظماء وهم يحنون ظهورهم أمام السياف ليقطع رؤوسهم، والحشود الغفيرة من أنصاف العراة الذين تلتصق جلودهم بعظمات القفص الصدري بعد أن تيبست من الجوع والمرض والشقاء ، فإننا حتماً سنتساءل: ماذا بقي من الدين ليحكم باسمه أولئك الأئمة إن كان أثر فعلهم يدمي القلوب. وعندما نراجع أوراق الثورة ، ونقرأ اسم العراقي جمال جميل ، والجزائري الفضيل الورتلاني ، والمصري الزعيم جمال عبدالناصر ، وآلاف الضباط والجنود المصريين نشعر بعظمة الثورة اليمنية على اعتبار أن التضحيات العربية كانت شهادة التزكية لنبل الأهداف الثورية ، وشهادة الإدانة لفداحة الجرم الذي ارتكبه أئمة اليمن واستحق العقاب مهما كلف من دماء طاهرة .. خاصة وأن الأمر قوبل بحماس دول كبرى مثل روسيا والصين وغيرهما من دول العالم التي وجدت في التغيير الثوري استحقاقاً شعبياً ووطنياً ناله اليمنيون بجدارة. لم يكن من شيء بوسعه تفسير الانفجار الثوري السبتمبري ،والمباركة الدولية المبكرة سوى تلك التحولات التاريخية التي اعقبت يوم 26 سبتمبر 1962م وحتى يومنا الحاضر ، لأنها كفيلة بإماطة النقاب عن الهوة السحيقة بين العهدين الملكي والجمهوري ،وبين الشعب الذي حكمه الأئمة وشعب اليمن اليوم بكل ماحظي به من كرامة إنسانية، وحقوق ، وحريات ،وظروف معيشية. ربما الكثير من الثورات العربية لم تستغرق كل الزمن الذي تطلبته ثورة سبتمبر في تحقيق أهدافها، ذلك لأنها قصدت تغيير نظام سياسي فاسد بآخر وطني شريف يتفق وطموح الثوار ، لكن ثورة سبتمبر لم تكن مهمتها تغيير أدوات نظام سياسي وحسب ، بل أيضاً تغيير واقع اقتصادي وثقافي واجتماعي ، بل وحتى جغرافي يلغي الخارطة التشطيرية لليمن. إن حاجة اليمنيين اليوم لإعادة تصفح وثائق تلك الحقبة التاريخية أصبحت أكبر من أي وقت مضى ، لأن ثمة محاولة تستنسخ أدق تفاصيل الثقافة الإمامية البائدة ،وتحاول اسقاطها على جيل هذا العصر رغم أن المسافة التي تفصلنا عن ذلك الزمن باتت 74 عاماً ، مليئة بالتطورات الثقافية والفكرية والسياسية التي يستحيل تكييفيها مع ذلك الزمن الذي كان بحد ذاته زمناً ضائعاً من الحياة الحضارية اليمنية. قبل 74 عاماً وأكثر كان الإمام يفرض نفسه على الناس بادعاء الوصاية الإلهية الدينية على اليمنيين ، وبوصفه لنفسه بأنه يمثل «إرادة الله في الأرض» والعياذ بالله.. واليوم يدعي عبدالملك الحوثي بصعدة نفس الوصاية ، وبذات المنطق الذي كان يتحدث به الإمام يحيى بن حميد الدين أو خلفه الإمام أحمد.. أما لو قارنا الأفعال فلن نجد الشيء الكثير المختلف سوى أن الإمام كان يقتل الناس بالسيف بينما الحوثي يقتلهم بالرصاص والقنابل والقذائف .. فيما بقية التفاصيل متطابقة سواء من حيث التفكير ، أو الطريقة اللا إنسانية في التعامل مع أبناء الشعب ، أو في حب الحروب والعنف والدماء ، وعدم الاكتراث لمصالح الآخرين ، إذ إن الحوثي انفق الملايين من الدولارات على الأسلحة والذخائر دون أن ينفق فيها دولاراً على إعانة فقير ، أو تعليم طفل ، أو علاج امرأة من أسرة معسرة.. وكذلك فعل الأئمة حين كرسوا كل خزائن بيت المال لملاذهم ولحروبهم ضد القبائل المختلفة ، ولفرض ثقافتهم المذهبية على بقية ارجاء اليمن. ومثلما فرض الأئمة عزلة على اليمن ، وصادروا الحقوق والحريات ، وعادوا الديانات الأخرى فإن الحوثي انطلق من نفس القاعدة التي جاهر بها بأنه ضد الديمقراطية ،وراح يرفع شعاراً عنصرياً يدعو من خلاله لإبادة الشعوب والأمم الأخرى.. والمفارقة أن الإمام دعا إلى نبذ الغرب ومعاداتهم إلا أن كل الدماء التي سفكها كانت يمنية.. والحوثي رفع شعار «الموت لامريكا وإسرائيل» لكنه سفك الدماء اليمنية عوضاً عنها. لكن ما يجعلنا اليوم نراهن على نهايات بائسة ذليلة لكل مقلدي نهج الإمامة هو أن آل حميد الدين وصلوا للحكم بفضل جهل وأمية وفقر الشعب ، بينما الحوثيون تمردوا في زمن وعي الشعب وتحرره من الأمية والفقر المدقع.. ومهما رفع الحوثي صوته صارخاً لاستحضار «الجن» كما فعل جده «أحمد» فإنه لن يجد من «يتقطرن» بعده ، بل مزيداً من السخرية والرغبة لاستكمال تحرير الوطن من بقايا مواريث الدجل والشعوذة. لاشك أن الزمن لا يعود إلى الوراء ليبعث عهد الأئمة من الأجداث ،لكن ثمة طريقة واحدة للحوثيين لملاقاة أجدادهم الأئمة ، وهي أن ينزلوا إلى القبور فالموت هو السبيل الوحيد للحاق بركب الأموات»..