سبق لي الكتابة عدة مرات حول ذات الموضوع، وأجدها مناسبة اليوم لإعادة تناول جزئية مهمة في موضوع الحريات العامة التي انحرفت ممارساتنا عنها لتتحول إلى شعار يردد دون أن يعي كثير ممن يرفعونه حقيقة معناه، وحدودها، والآثار السلبية الناجمة عن تجاوز تلك الحدود.«حب الوطن من الإيمان» تعد هذه المقولة واحدة من «العقائد» التي نشأت عليها الأجيال اليمنية منذ تكون الدولة اليمنية الحديثة في بدايات القرن الماضي، وعلى الرغم من اختلاف المدارس والبيئات الاجتماعية التي ينتمي لها المواطن اليمني، وكذا اختلاف الأجيال والأزمنة التاريخية والأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم اليمن، فإن المقصود ظل واحداً في ذهن جميع الأجيال اليمنية المتعاقبة، ولا نكاد نعثر فيما تركه السلف أثراً لاختلاف المقصود أو لتباين المعنى، وربما كان هذا باعثاً لتلك الأجيال للاتفاق حول واحدية الهوية الوطنية، وضرورة الثورة والنضال ضد الاستبداد والاحتلال، للذود عن الوطن اليمني الواحد في وجه كل أعداء الأمة والثورة والوحدة اليمنية، وحول المواقف التي تقتضي التضامن والاصطفاف الوطني ونبذ الخلافات والصراعات، أو تناسيها إلى حين منطلقين من إيمان لا يتزعزع بأن «حب الوطن من الإيمان». والتمييز الذي أقامته الأجيال اليمنية السابقة بين تلك القضايا، والمسافات التي أقامتها بين ما يجب ومالا يجب الخوض فيه من قضايا الوطن اليمني الواحد، وتوقيت الخوض فيه، ونطاقه، يقابله تنكر عند بعض الأحفاد، وتجاوز العديد من الثوابت المتفق عليها حتى في اطار مواثيق الشرف التي وقعتها جميع الأحزاب السياسية غداة إعلان التعددية السياسية والحزبية في بلادنا، فقد بات الخيط الفاصل بين حب الوطن والإحساس بجسامة المسئولية الوطنية وضرورة الاصطفاف الوطني في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ وطننا وأمتنا، وانعدام مثل ذلك الشعور - لأسباب مختلفة - خيطاً رفيعاً لا يكاد يميزه كثير من الناس إما جهلاً بالمسافة الفاصلة بينهما، وإما تجاهلاً وهذا أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الحال عند أي فرد أو مواطن في أي مجتمع من المجتمعات، مهما عظمت المبررات وقويت الحجج. ولذا فقد يكون من الممكن القول: إننا بتنا نعيش اليوم زمناً انقلبت فيه المفاهيم وتبدلت المعاني، فبعدما كانت المفاهيم والألفاظ تعني شيئاً واحداً- أو على الأقل تعكس توافقاً على معنى معين - عند كافة مكونات المجتمع الواحد على الأقل، لم يعد بإمكان أي كان أن يحدد المعاني الحقيقية لكثير من المفاهيم والممارسات المرتبطة بالوطن، والدين، فالفوضى باتت تتشح بأثواب الحرية، وتلبس لباس الحقوق، والمسافة بين الخاص والعام لم تعد واضحة، وحرية الرأي والتعبير أضحت تعبيراً عن الرغبة المرضية في الانفلات والفوضى والإساءة إلى الآخرين، والصواب انقلب خطأ والخطأ صواباً.. وهكذا. والأعجب من ذلك كله، أن تجد كثيراً من تلك الانحرافات من يدافع عنها في أوساط بعض المثقفين والحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب بعض القوى السياسية وحجتهم في ذلك أنهم إنما يقومون بتلك الأعمال في إطار الواجبات التي تفرضها عليهم مسئولياتهم، وهذا كما يقال: كلام حق أريد به باطل إذ أنه يتم في ظل ثقافة تقوم على تكريس الانقسامات، والطائفية، وعدم التسامح وتغييب الحوار العقلاني، وتغييب أو على الأقل عدم احترام حقوق الآخر، والتعامل معه وفقاً لمعايير مزدوجة وغير عادلة. بل، والملاحظ اليوم أن كثيراً من الجماعات والقوى السياسية في مجتمعنا أسهمت، وتسهم بقسط وافر من خلق وإرساء تلك الانحرافات في المجال السياسي اليمني، وتراها تجد في البحث عن كل الأسباب التي تزيد مساحة الخلاف بين أبناء الوطن الواحد وربما داخل البيت الواحد، بدلاً من البحث عن القواسم المشتركة ونقاط الاتفاق أو التوافق مع الآخرين، حيث يجد المتابع لخطابها السياسي والإعلامي، وفي ممارساتها الحزبية أنها تقوم بدور تحريضي يساهم في تكريس ثقافة العنف المناطقي والطائفي وتوجهها نحو الجماعات الأخرى، وتشجع على عدم التسامح بين أبناء المجتمع اليمني، وتعزيز قيم اللامبالاة تجاه كل ماهو وطني ووحدوي، وزرع بذور التعصب واحتقار حقوق الآخرين وهو الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام عن سر هذا التفرد في المواقف، وعن المكاسب التي ستجنيها تلك القوى من إثارة الأحقاد والفتن بين أبناء الوطن الواحد؟!. لا يستطيع عاقل أن ينكر أهمية تمثل فضيلة التسامح السياسي والعودة إلى طاولة الحوار السياسي، وحاجة مجتمعنا اليمني إلى إيجاد مساحة وخلق ثقافة من التسامح بين أبناء المجتمع الواحد لتحاشي كافة مظاهر العنف، وكل أشكال التعصب والصراع السياسي التي تفاقمت بوتيرة متزايدة، والاعتراف بالتنوع والاختلاف في وجهات النظر وأساليب التفكير بين أبناء المجتمع الواحد بوصفه أمراً واقعاً ودليلاً على حيوية وغنى مجتمعاتنا، ولكونه السبيل الأكثر أمناً لتحقيق التعايش السياسي بين مختلف الفرقاء السياسيين في المجتمع. ولهذا تتزايد قناعتنا رسوخاً بأن مجتمعنا اليمني في حاجة ملحة إلى إشاعة القيم والفضائل والأخلاقيات المتعلقة بالتسامح، والاحترام المتبادل لتعزيز الممارسات الديمقراطية والاستقرار السياسي، وهذه المسألة ليست من اختصاص الدولة وسلطاتها ومؤسساتها التربوية والتعليمية وحدها، بل إن على جميع القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات التنشئة التابعة لها أن تضطلع بدورٍ إيجابي في اطار أداء مهامها في التنشئة السياسية وتربية المواطن على مبادئ المواطنة، والولاء التي تميز الحق عن الواجب، والحرية عن الفوضى، والصواب عن الخطأ، والجائز عن غير الجائز. ٭ جامعة إب