مامن زمن استدعى حضوراً ثقافياً كما هو الزمن الحاضر الذي فاق كل حقب التاريخ بفرص الصناعة الثقافية، وتقنيات تبادل المعلومة.. فتلك الفرص كانت أكبر من قدرات مجتمعاتنا على احتوائها، وأكثر تنوعاً وغزارة من إمكانية فرزها، فكان أن غرقت شعوبنا فيها، وأمست تترقب حضور نخب الوعي والرأي والحكمة لانتشالها قبل انقطاع الأنفاس.. في مرحلة سابقة أفرطت الأقلام، ومنابر الرأي في الحديث عن«التطرف» الديني، حتى بلغت من أمرها المساس بالدين نفسه، وأطلقت العنان للتطاول على كثير من القيم الأخلاقية بأن تصبح سلوكاً يومياً ندعي به حماية أمن المجتمع.. إلا أننا اليوم نجد أنفسنا غارقين بالتطرف المدني الذي يقوم على ثقافة الإباحة المطلقة لكل أفكار ودعوات وحملات الأفراد والجماعات والهيئات.. فالملاحظ أننا ليس في اليمن فقط نواجه تحديات الفوضى المدنية، بل في معظم بلداننا العربية الاسلامية أصبحت ثقافة الشتات الهجينة هي التي تكسح عقول الشباب، وتضع الأجيال في حال من عدم الاستقرار في أطر ثقافية محددة تمنحها الهوية الوطنية، بقدر ماتجعلها تتأرجح خلف الجميع دونما رادع أو كابح لعنفوانها.. فلم يسبق لشعوبنا أن واجهت عدواناً مسلحاً، ومؤامرة خارجية، ووجدت نفسها متفرجة بلا موقف كمن ينتظر أن تميل الكفة لطرف معين ليتخذ موقفاً.. كما هو حاصل اليوم من قبل أحزاب اليمن التي لاأحد يعرف لحد الآن كنه ولائها وانتمائها، فلا وقفت مع الوطن ولامع خصومه، وكأنها شعب إحدى الدول الصديقة ويفضل موقف الحياد.. وفي جانب آخر من المشهد اليمني نجد من يتطلع للتحول إلى«طرزان» عصره على حساب«تقزيم» الوطن.. منتهكاً كل قيم وأعراف المجتمع، ومستغلاً ظرفاً عصيباً.. كما لو أن الطعن بالظهر ثقافة سائدة، وإغراق الأهل بالأزمات أخلاق رفيعة! كل يوم نحن أمام دعوات جديدة.. وأحلاف.. وائتلافات.. ولجان.. وكيانات مدنية تمارس أبشع ألوان التطرف الفكري، والإباحية التحررية التي تحرم كل شيء على سواها، وتكفر الجميع ماعداها، وكل يوم تناقض به مادعت إليه بالأمس كما لو كانت تظن أن الشعب مثل العجينة تشكلها كيفما كانت.. كل هذا الصخب الذي نسمعه، ويقض مضاجعنا لاينم عن شيء سوى أننا في حالة تيه ثقافي، وتمزق فكري نتقلب بين حناياه كيفما شاء هؤلاء الذين يجعلون من أنفسهم رموزاً، وقادة، ونخباً تمارس الوصاية على الجميع بغير تخويل من أحد أو تزكية من جهة.. في الوقت الذي يأتي كل ذلك على حساب البنى الفكرية والأخلاقية والعقائدية للمجتمع.. ومن المؤكد في ظل تراجع حضور النخب الحقيقية لوعي المجتمع التي كانت على مّر العصور هي صمام أمنه، استغلت القوى الانتهازية الفراغ الحاصل لتقدم نفسها للأجيال كدعاة فضيلة وإصلاح وتغيير.. ومن هنا فإننا سنواصل الغرق في ظل استمرارية تدفق القوى الانتهازية الفاسدة إلى أوساط المجتمع متلفعة بقناع الفضيلة، مالم تستنفر نخب الرأي والوعي والثقافة وتحاول مجدداً الإمساك بزمام الأمور، وقطع الطريق أمام من باتوا يعيثون في الأرض فساداً باسم الديمقراطية والتغيير والحريات الإباحية التي تعتبر طعن الجيش من ظهره في الداخل بطولة ورجولة نضالية..!!