استتباعاً لحديث الأمس نعرج على الدكتور فؤاد الشطي من الكويت, حيث تحدث عن الإسلام ونظام الحكم مشيراً إلى أن الإسلام أكد على التصور العام للجواهر الكلية .. للكون والطبيعة .. لذلك فإن آيات التدبر والتبصر والتقرّي لملكوت السموات والأرض اكثر بكثير من آيات التشريع التي ركزت على الأحوال الشخصية, لذلك فإن الإسلام لم يقدم نموذجا لدولة, أو مشروعاً سياسياً كما يزعم البعض ويعتقدون , بل ترك هذه الأمور لاجتهادات المسلمين وعلى أساس من استلهام الهدي القرآني والسير على نهجه. وكان حديث الشطي عن التيارات السياسية الثلاثة الكبرى في تاريخنا مجيراً على ذات التوصيف الدنيوي السياسي, حيث إن جذر التفارق الأول بين السنة والشيعة والخوارج ذو صلة كبيرة بشؤون الدنيا, وان كان العلم الديني دخل على الخط محايثاً لهذا الأصل الدنيوي للتفارق. ويرى الدكتور الشطي أن المشروع السياسي الإسلامي ينكسر طالما وأن الموقف تجاه مفردات العصر وضروراته مازال يوصف بالغموض من طرف الرافضين لهذا المشروع, وبالمقابل انتقد سلوك الأنظمة العربية والعالمية تجاه التيار الإسلامي لأنه سلوك استبعادي استئصالي لا يضع بعين الاعتبار إمكانية وقابلية مشاركة هذا التيار في صنع الحاضر والمستقبل, الأمر الذي يتسم بالعدمية والروح القاهرة قصيرة النفس . كانت المناقشات المتصلة بالمحاضرة تلامس القلق والحيرة السائدتين, خاصة وأنها استخدمت نظام المصطلحات المألوفة في الأدبيات السياسية المعاصرة بصورة مفاهيمية سابقة على الحقيقة, فالعلمانية شر مستطير, والديمقراطية تتعارض مع الدين .. وهكذا . ليست العلمانية الأوروبية إلا محطة متقدمة في مشروع الفصل والوصل بين الحكمة والشريعة التي دعا إليها بل ونظر لها فيلسوف المسلمين ابن رشد في مقاله الهام ( فصل المقال , فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال ) .. فابن رشد لم يقصد مزج الفلسفة ( الحكمة ) بالدين . بل قال إن نقطة اللقاء الممكنة بين الحكمة والشريعة تكمن في لحظة التلاقي عند المقاصد, فإذا كانت مقاصد الشريعة نبيلة ولصالح الإنسان, واتسقت معها مقاصد الحكمة (الفلسفة ), فان اللقاء وارد ومطلوب , وإذا لم يكن الأمر كذلك فلا لقاء بين الحكمة والشريعة . لم يذهب تلامذة ابن رشد الأوروبيون هذا المذهب .. ونذكر منهم مثالا ( الإنسانيين ) السابقة على إصلاحات الراهب مارتن لوثر , لأنهم أرادوا المزج بين الحكمة والشريعة دونما ملاحظة لشرط ابن رشد المركزي والذي يقضي بوحدة المقاصد, ويرفض التجديف على الحقيقة الإلهية ونواميسها في الكون والطبيعة . ذلك المشروع المتقدم للجدل بين الحقيقة والشريعة شكل مقدمة تاريخية لفكرة فصل الدين عن الدولة بالمعنى الذي عرفناه في العلمانية الأوروبية, فكان الفصل إجرائياً, لا علاقة له بالإلحاد كما يزعم البعض من محدودي النظر, أما النظريات الفلسفية التي استبعدت الميتافيزيقا اللاحقة فقد جاءت عطفاً على الذهب المادي الجبري الذي غاص في نرجسية الذات البشرية ونجاحات العلوم البرهانية, دون أن تضع في الاعتبار أسبقية المشيئة على الفعل الإنساني مما لا يتسع له المقام في هذه العجالة.