في الوقت الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وهي تصغر كل يوم بفعل الشبكة الاقتصادية والتأثير والتأثر الاقتصادي المباشر، وتأتي الأزمات الاقتصادية أو الازدهار الاقتصادي لتؤكد في كل مرة هذه الحقائق العولمية. وبالرغم من أني أكثر انتماءً للمدرسة النقدية للعولمة في بعدها التحكمي بالاقتصادات والشعوب الصغيرة، وبما يكتنفها من مظاهر الهيمنة الغربية الاقتصادية والعسكرية والأمنية والتكنولوجية، إلا أننا لا نستطيع أن نتعامل مع هذه الحقبة التي آلت إليها انهيارات المدارس الاقتصادية الأخرى، بمنطق تقليدي وبعقلية شمولية. ذلك أن خيارات الاقتصاد الاشتراكي، بالرغم من كونها أقرب إلى تقدير حاجات العالم الثالث وأكثر عدالة من البديل الرأسمالي، إلا أن التجربة قد لقيت مصرعها إما بفعل الدعاية والتكالب الرأسمالي المسيطر على الحاجة والعاطفة، أو بفعل فشل التجربة من داخلها لأسباب تطبيقية لم تستطع تقديم البديل الاقتصادي القادر على الحياة. وأياً كانت الأسباب فنحن الآن نعيش حقبة هي أقرب إلى حتمية العولمة الاقتصادية والاتصالية يصعب أن نبحث عن كوكب آخر يستوعب أولوياتنا وحاجاتنا التقليدية أو يأخذ في الاعتبار هوياتنا وخصوصياتنا التي تدهسها الشركات عابرة القارات والجنسيات في طريقها إلى تراكم رأس المال. وفي الوقت الذي تتسابق فيه الاقتصادات على فتح الأسواق وإلغاء الحواجز والحدود المادية والقانونية التي تعيق حرية الاقتصاد والحركة التجارية بين شعوب العالم نجد من يقوم بوضع حواجز وعوائق نفسية وعوازل أمنية ويضع حدوداً قروية وينمي نزعة العزلة بين أجزاء الوطن الواحد وأبناء الوطن الواحد. حيث تريد عناصر حراك التخريب والعنف والفوضى أن تحول بين الناس وبين عدن، وأن تخضع حراكها الاقتصادي لحراك العنف والعزلة والخراب والفراغ الذي تطوقها به عناصر الحراك التخريبي والتحريض المناطقي. كنا نحزم حقائبنا في كل عيد ونتجه تلقائياً نحو الثغر الباسم، نحو عدن الحالمة لنستمتع بشواطئها الدافئة وقلبها المفعم بالعشق والمحبة ونلوذ بوداعتها وشاعريتها الفريدة، وبمجتمعها المدني الجميل.. كنا نهرب إليها من صخب الحياة وضوضائها ودوامة الروتين اليومي ومسؤولياتنا وهمومنا العامة والخاصة التي تدور بنا رحاها وتطحننا وطأتها. أما في عيد الأضحى الماضي فقد حدث ما يستحق التأمل والتوقف عنده، حين هجر الناس عدن واتجهوا قسراً إلى الحديدة لتكون عروس البحر الأحمر هي قبلتهم في إجازة العيد، حتى أصبح الحصول فيها على غرفة في فندق مطلباً صعب المنال. وبعد أن انقضت الإجازة تواترت التقارير الاقتصادية التي تتحدث عن الشلل الاقتصادي والسياحي الذي أصاب عدن، حيث بلغ في حده الأدنى في قطاع السياحة 40 %، ونسب مشابهة في سوق الاستثمار والخدمات وغيرها وحتى نسبة حركة الموانئ وما يتبعها من حراك اقتصادي، ثم انعكاسات ذلك على سوق العمل التي يشكل أبناء عدن وأبناء المحافظات الجنوبية وأبناء كل اليمن عمودها الفقري. ويحدث هذا الركود الاقتصادي بفعل الحراك المناطقي التخريبي الفوضوي الذي يبشرنا بمستقبل بائس يحمل بصمة بؤس الأفكار القروية والمناطقية التي تطوق عدن بالتخلف وهم يدعون تبنيهم لحاجات وأولويات ومتطلبات أبناء المحافظات الجنوبية زوراً وبهتاناً. ولا أتصور أن يمر نموذج عدن في إجازة العيد دون تأمل ودون تأثر، ودون أن يسأل المتضررون أنفسهم من المسؤول عما حدث؟ من المسؤول عن تخويف الناس من التوجه إلى عدن وحرمانهم من وداعتها ونسماتها وبحرها وشواطئها المحببة إلى قلوبهم؟ من المسؤول عن قطع الطرقات، أو الإضرار بأمن العبور، والتقطع للناس بالهوية المناطقية، ومن يمارس القرصنة البرية بقطع السبل التي تفضي إلى قطع سبل العيش وسبل الأمن وسبل حقوق المواطن في التنقل وحق المجتمع في التمتع بأمنه وسلامته؟ وهل سيستبدل الناس الحراك الاقتصادي المرتبط بحياتهم الكريمة بحراك مناطقي وتخريبي مرتبط بالعطالة والخوف والفوضى والجريمة؟ هذا سؤال يجب على كل ذي قلب وغيرة وطنية، من أبناء عدن وأبناء المحافظات الجنوبية والشرقية وأبناء اليمن الواحد أن يسأله لنفسه، وأن يحاول الإجابة عليه، وأن يتخذ منه مؤشراً على فداحة الخسائر والتبعات والانعكاسات الناتجة عن ممارسات عصابات الفوضى والتخريب وتنمية النزعات المناطقية والتصرفات الصبيانية.. حيث سيدفع الجميع مصالحهم الخاصة والعامة حال صمتهم عنها، وهو ثمن باهظ لطيش جماعات تحريضية لا تنظر إلى أبعد من قريتها في وطن أصبح أكبر بكثير مما تستطيع أن تستوعبه مخيلاتهم المريضة. فهل تقبل عدنالمدينة المفتوحة على العالم أن تصبح أسيرة بعض القرويين والمتخلفين الذين يطوقونها بجهلهم ومشاريعهم الضيقة التي تستهدف مصالح كل الشعب؟ [email protected]