الحديث عن شعر العرب في الألفية الجديدة ليس حديثاً عن المستقبل فحسب بل هو حديث عن الماضي أيضاً، فالشعر لا ينبت من أزمنة الفيزياء الاعتيادية، بل من زمن الإبداع الموصول بالدهر .. الدهر بوصفه حدثاً وتحولاً وما يتجاوز الزمكانية أيضاً، فدهر الحدث لصيق المكان والزمان، ودهرالتحول لصيق الآمال والأحلام، ودهر الدهور لصيق الدهر الداهر الذي تتخطفه الآفاق الماورائية اللامتناهية. تلك المثابة جعلت الشعر رديفاً للسحر والأسطورة والفنون والديانات، ولم يكن غريباً والأمر كذلك أن يتم نعت النبي الكريم من قبل الدهريين العرب بأنه شاعر ومجنون، وذلك استناداً إلى بديع الكلام وبيانه، وحجة القرآن في هذا الباب . لا تكمن شاعرية الشعر بل شعرية الشعر في الميزان الظاهر للنص، بل أيضاً في ذلك البُعد الغنائي المموسق المركوز في أساس اللغة وتضاعيفها، فاللغة مُدوْزنة بطبيعتها، محكومة بميزان الحركة والسكون المتراتبين، ولهذا السبب لم يجد الخليل بن أحمد الفراهيدي سبيلاً لمعرفة موسيقى الشعر إلا من خلال الموسيقى المجردة، وهذا ماكان، فقد كتب تفعيلاته المعروفة على قاعدة التناوب بين الحركة والسكون، تماماً كما فعل «دانتي اليغيري» عندما جمع شتات اللهجات الإيطالية، مستنداً على ذات القاعدة الموسيقية الصادرة عن الإنسان وتكوينه البيولوجي، وقدراته الظاهرة في النطق، والشاهد أن كل لغة مكتوبة ليست إلا تُرجماناً لتلك الأصوات المموسقة التي يطلقها البشر في حديثهم، فكأن ترميزات تلك الأصوات وأبعادها الكتابية البصرية اللاحقة تمثل بدقة متناهية ميزان الجسد الآدمي الذي يُعتبر المقدمة الحاسمة لأي منطوق ومقول. أقول هذا الكلام للتدليل على أن شعرية الشعر تنبع أساساً من شعرية الكلام «اللغة» ، ولهذا السبب لا تتوقف هذه الشعرية عند تخوم الأبيات المحكومة بالتفعيلة والقافية، بل إن تلك الأبيات دليل ساطع على درجة التقطير في الغنائية النصية اللصيقة بالشعر.