قصة الشاعرة الخنساء التي اشتهرت برثاء أخيها صخر تكشف جانباً من حياة الدهريين العرب الذين تعاملوا مع الحياة بروحية مُقيمة في أسباب الدنيا، غير رائين لما بعدها ، فالأحزان المديدة والإصرار على الإقامة في مرابع الموتى واحدة من المتاهات العظيمة التي وقع فيها الدهريون الذين لم يعترفوا بالمشيئة، وبأن الموت برزخ عبور إلى حياة أخرى، بل قالوا : إن هي إلا حياتنا الأولى نموت ونحيا فيها كما ورد في القرآن الكريم، ولعل أبلغ مثال على ذلك «الزير سالم» الذي لم يرث أخاه كليباً المقتول فحسب، بل أصرّ على شن حرب لا هوادة فيها حتى يعود كليب حياًً !! .. هكذا كان يقول عندما يطالبونه بإيقاف الحرب والقبول بالصلح .. كان يقول : لا هذه ولا تلك، بل كليب حي !. عندما جاء الاسلام برسالة التوحيد تراجعت العصبية الجاهلية واختل ميزانها الدهري، فقد تيقّن المسلمون بأن القاتل له الحساب العسير عند ربه، وأن المقتول ظلماً وعدواناً سيجد حقه في الدنيا والآخرة من خلال تطبيق الشريعة في الأولى، ومحاسبة القاتل في اليوم الآخر. هذه العقوبة المزدوجة التي سينالها الظالم أخرجت عرب الجزيرة من متوالية التقاتل العدمي أخذاً بالثأر، وجعلت الشريعة حكماً على الجنايات أياً كانت، واعتبرت الصبر والتحمل قرينة الطمأنينة والإيمان بأن للناس رباً يحميهم، ولهذا توقفت متتالية النصوص التي ترثي دونما توقف، أو تشعل نيران الحرب دونما توقف أيضاً. الخنساء الأشهر في المرثيات قدمت شعراً جميلاً، وأبانت مناطق الجمال في روحية المرأة المكلومة، مؤرخةً لثقافة سادت ثم بادت كما أسلفنا الإشارة.