كثر الحديث عن خطورة الكمبيوتر والكتاب الالكتروني وأنهما مع القنوات الفضائية قد سحبوا البساط من تحت الكتاب التقليدي، وأن الكتاب قد فقد دوره؛ غير أن هذه الإشاعة قد تبددت، فقد بلغ المترددون على معرض الكتاب الدولي في القاهرة عدة ملايين. وقد شاهدت بنفسي إقبالاً كبيراً من كل الأعمار، وقد وفر المكان الذي احتله المعرض بيئة مناسبة لقضاء عطلة متميزة للأسر التي حضرت لتجد كل متطلبات الترفيه والتسوق؛ مع أن البضاعة صنف واحد وهي الكتاب ولكن ليس بعنوان واحد. لقد حضرت إلى هذا المؤتمر الثقافي أكثر من ثمانمائة دار نشر، وقد طغت كالعادة كتب العلوم الإنسانية والدينية على وجه الخصوص، وكان الإقبال على هذه الكتب كبيراً، كما أن الكتب الخاصة بالتكنولوجيا والكمبيوتر قد حظيت بإقبال متميز خاصة من شريحة الشباب؛ وهو أمر محمود ويجب تشجيعه. المعرض تخلله عدد من الفعاليات الثقافية والمحاضرات، وما يلحظ في المعرض هذا العام هو غلاء الكتب العلمية، مع أن معظم هذه الكتب طبعة هندية مأخوذة من طبعات أوروبية أصيلة؛ الأمر الذي صعب على البعض شراؤها. المهم أن المعرض كشف عن أن دور الكتاب لايزال مهماً ولم يفقد دوره وربما لن يفقد هذا الدور على المدى القصير كما كان متوقعاً، والحق أن الكتاب يظل صديقاً شخصياً لقارئه وتنشأ بينهما علاقة حميمة، وقد صدق المتنبي حين قال: أعز مكان في الدنيا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب ومعلوم أن الأمم تقيس رقيها بمقدار ما تنتج من كتب، وبمقدار ما يقبل أبناؤها على الكتب، ونحن في بلدنا يوجد نوع من العزوف عن اقتناء الكتاب؛ بل إن بعض أبنائنا من الجيل الجديد لا يشدّه الكتاب ولا القراءة عموماً، ويمكن إعادة هذه المشكلة إلى عدة أسباب منها: 1 الغزو المستمر عبر القنوات الفضائية التي تجعل الثقافة آخر اهتماماتها وتقتصر على البرامج الترفيهية فقط، ولا توجد في خارطتها الإعلامية أية مساحة للثقافة الحقيقية التي تكرس مفاهيم وقيم المجتمع وتحافظ عليها. 2 غياب الطبقة المتوسطة اقتصادياً والتي تمثل طبقة الثقافة في المجتمع؛ وذلك بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية، فهذه الطبقة هي التي تمثل الإبداع المجتمعي، فمعظم العلماء ظهروا من هذه الطبقة، أما طبقات الأثرياء فإن الثراء يطغى والفقر ينسى، ويحصر اهتمام صاحبه في دائرة العيش. 3 تحول الطموحات والتطلعات، فقد كان أكثر الناس يحرصون على تعليم أبنائهم طمعاً في أن يصبحوا علماء ينتفع المجتمع بعلمهم، ثم تحول ذلك الطموح إلى مرتبة أدنى، حيث صارت الوظيفة هي غاية المنى، وتراجع هذا الطموح أيضاً إلى مرتبة أدنى، فأصبح المال والحصول عليه بأي ثمن أو كيفية هو الهدف الأسمى لدى الآباء والأبناء. وقد سأل صديق عالماً أزهرياً: ما الذي ترجوه لولدك عندما يكبر؟. فقال: "أريد لابني أن يكون لاعب كرة أو فناناً ليعيش مرتاحاً ويلعب بالفلوس لعب، لا أريده أن يكون مثلي، فأنا قد أمضيت أجمل سنين عمري في العلم والدراسة أواصل الليل بالنهار، فماذا كسبت؟! مازلت مستأجراً بيتاً هي أقرب إلى أن تكون زريبة منه إلى أن تكون بيتاً، ونهاية كل شهر أتعرض للإذلال والإهانة من المالك الذي لا يحسن فك الخط، وحتى اللحظة لم أتمكن من تزويج ابنتي، لهذا كله أريد لابني أن يكون لاعب كرة!!" بالطبع هذا الحديث الممزوج بكل هذه المرارة لم يكن ليصدر عن عالم درس في الأزهر إلا بعد أن سحق الواقع المرير أحلامه، فلا شهرة ولا مكانة اجتماعية كما كان في الماضي، لقد أصبح لاعب الكرة الذي لا يعرف القراءة والكتابة أهم من بروفيسور أمضى عدة عقود في التعلم، والممثل أو الممثلة خريج الإعدادية أهم وأشهر من بعض العلماء الحاصلين على جائزة نوبل!!. إن انقلاب الموازين والإصرار على عدم إعادة التوازن إلى القيم والمثل، وتوجيه الثقافة ووسائل الإعلام بعيداً عن بوصلة الرقي والترقي بها؛ كل ذلك سيُبقي وضعنا على ما هو عليه، بل سيزداد سوءاً. ولكي نعيد الاعتبار لهذه الثقافة فلابد من تشجيع النشء والشباب على الاتجاه إلى القراءة واقتناء الكتاب، وعقد نوع من الصداقة معه وذلك ممكن عن طريق الآتي: 1 تشجيع القراءة ورصد مكافأة لأفضل قارئ. 2 يمكن عمل تعداد لكل زائر للمكتبة سواء في الجامعة أم المدرسة، ومن يكون أكثر زيارة يحصل على جائزة تشجيعية أو اشتراك مجاني فيها. 3 برامج المسابقات في الأجهزة الإعلامية وخاصة التلفزيون لابد أن تكون جادة، وتضع أسئلة هادفة لربط النشء بتاريخهم ودينهم. 4 إعادة ما تم إلغاؤه من القصص المقررة إلى المناهج الدراسية مثل قصص صلاح الدين، خالد بن الوليد، عمر بن عبدالعزيز وغيرهم حتى يجد الطالب نماذج للاقتداء بهم بدلاً من الاقتداء باللاعبين والممثلين. والمسئولية على الجميع تجاه هذا الجيل الذي يعيش بحراً متلاطماً من التيه والضياع!!.