الحرية لايمكن أن تكون شعاراً تجاه الآخرين حتى تكون شعوراً تجاه الأنا! أي حتى يرفع كل فرد في المجتمع شعار (لاسيداً ولاعبداً) فكما ارفض أن أكون عبداً لأحد فإنني وبنفس القدر أرفض أن أكون سيداً لأحد, بتعبير مالك بن نبي رحمه الله. لايمكنها أن تكون سياسية حتى تكون قبل ذلك اجتماعية شعبية.. سلوك يومي في تفاصيل حياة الناس, في بيوتهم ومدارسهم وشوارعهم ومساجدهم.. وانجلترا خير مثال على ذلك, فالديمقراطية هناك غير محمية بنص دستوري, بل هي تستمد قوتها الناعمة من القوانين الاجتماعية, فقد أصبح السلوك والاخلاقيات الديمقراطية أعرافاً وعادات محمية بقوة المجتمع نفسه, يتنفسها كالهواء ويمارسها بعفوية, أي أنه من (العيب) إنتهاك حقوق الغير والتسلط عليهم ومصادرة آرائهم.. هذه سلوكيات يستهجنها الشارع هناك كما يستهجن الشارع عندنا امرأة تسير حاسرة الرأس أو (ببنطلون جنز)!!. ولأن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن المستحيل أن ينعم بالحرية السياسية على قوم يستبد بعضهم بعضاً, ويتسلط كل ذي سلطة على من دونه بالجبروت والقهر ويخضع لمن فوقه بالذل والمسكنة، فكل من لديه القابلية لأن يكون مستبداً لديه القابلية لأن يكون عبداً. وخذ مثالاً على ذلك يورده مفكر سوري – وليس يمنياً – ويظهر أن الحال لدى العرب واحد! يقول د.خالص جلبي: تأمل في رجل المرور وهو يوقف سائق التاكسي (أو الحافلة!) ليقيد له مخالفة حقيقية أو مفتعلة كيف يتجه نحو السيارة نافخاً صدره فارداً عضلاته رافعاً صوته كأسد سيهجم على فريسة وربما ضرب السيارة بيده أو شتم السائق .. إلى آخر هذه الفرعنة, كل هذا وسط توسلات السائق وتودداته التي تتحول فور أن يغادره الضابط إلى سب مقذع في قفاه! ثم تأمل حالهما – الضابط والسائق – تذلّل الأول وضعته أمام ضابط أعلى منه رتبة وأكثر تسلطاً, وتفرعن الثاني وانتهاكه حقوق من تحت يده وأولهم زوجته وأطفاله.. وتفاصيل حياة الضعفاء في المجتمع تزخر بالبؤس وتطفح بالحرمان من أدنى الحقوق. (إنه لاقدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع). وكيف تستاهل القداسة والنصر أمة تغلغل فيها داء الاستبداد والقابلية للتعايش معه. (والله لو أمرني الشيخ أن أستقيم له, بأستقيم!) سمعتها من أحد مبرراً وقفته الذليلة أمام بوابة قصر شيخ منطقته الموصدة في وجهه, فلو عاقبه الشيخ كما يعاقب الأطفال لرضخ بكل رضا وامتنان! إن ألف عام من استبداد الأئمة في اليمن أو الأمويين والعباسيين والعثمانيين ودول الطوائف المعاصرة على امتداد الوطن العربي, لايمكن لهذا الإرث الضخم من الاستبداد أن ينجلي من القلوب وتتحرر منه الأرواح إلا بتربية طويلة المدى, وطرق متكرر لمعاني الحرية والإنسانية.. انه مشوار الألف ميل الذي يبدأ.. بكلمة! ولا ييأس من روح الله إلا القوم الضالون.