أضحى الحديث عن ضعف قيم الولاء والانتماء الوطني محل نقاش وجدل اجتماعي، ويقظة مفاجئة تؤكد أن هناك مشكلة وتقود إلى نتائج خطيرة سببها إهمال البعد التربوي والثقافي، وفهم متأخر لأهمية البعد الثقافي والتربوي في ترسيخ قيم الجمهورية والوحدة والديمقراطية في وجدان الناس وليس في بيانات الأحزاب والبرامج النظرية، وفهم متأخر بأن الوحدة لا يحميها الجيش والأمن، بل تحميها قيم الانتماء والولاء للوطن الواحد في قلب وسلوك ووجدان كل مواطن، وفي وجدان أجيال الثورة والوحدة. والحديث عن أزمة وتراجع في قيم الولاء والانتماء الوطني أصبح قضية رأي عام تتشكل وتنمو كل يوم وتتضخم، بل صار أشبه بالموضة السياسية والثقافية هذه الأيام، وأصبح طول وعرض العلم الوطني تعبيراً رمزياً عن مفقود ما. وهذا التضخم يحمل وجهاً واقعياً وآخر خرافياً، تعزز الخرافة فيه الأحداث التي تعتمل على الساحة الوطنية، وهي أحداث تستهدف الجمهورية والوحدة والديمقراطية.. كما أن الفجوة القائمة بين الخطاب السياسي وبين معانيه ومدلولاته في السلوك السياسي والثقافي والاجتماعي تساهم في إضعاف قيم الولاء والانتماء الوطني.. وفي هذا التداول العام لهذه الظاهرة كثرت الاجتهادات والتعاطي غير الرشيد في محاولات لإصلاح ما أفسده الدهر من قيم الولاء الوطني، على يد من لا يجيدون العطارة. لكن الدراسة العلمية لقيم الولاء الوطني في وثائق المناهج كانت هي البداية الصحيحة، بديلاً عن التهريج والصراخ والضوضاء التي تنتج قيم النفاق والتنطع والشعارات السطحية.. فالورشة التي تبنتها وزارة التربية والتعليم من 17 18 مارس الحالي لإشهار نتائج الدراسة والتحليل العلمي لقيم الولاء والانتماء الوطني في المنهج الدراسي، تبدو الخطوة الأولى الصحيحة على طريق إعادة بناء القيم الوطنية على أسس تربوية سليمة. وهي دراسة تستحق الشكر الخاص لأولئك العلماء الذي حملوا على عاتقهم العمل بصمت لمدة عامين متواصلين للخروج بتلك النتائج فضلاً عما أضافته فعاليات الورشة وجماعات العمل من نقاش إيجابي شاركت فيه نخبة اجتماعية مثلت المشارب الفكرية والمدارس العلمية والفاعلين السياسيين والثقافيين والاجتماعيين على مدار يومي عمل متواصلين. وبالرغم من أهمية ما قامت به تلك الدراسة، للإجابة على افتراضات يرددها السياسيون والمثقفون والصحفيون حول محتوى المنهج الدراسي قياساً على مخرجات السلوك العام، إلا أن لب المشكلة قد لا يرتبط بالكتاب المدرسي وحده باعتبار الكتاب ليس المنهج إلا وثيقة نظرية تحدد اتجاهات بناء القيم والسلوك ولا تمثل مجموع عناصر المنهج الدراسي ومدخلاته.. ذلك أن المنهج المدرسي بمفهومه الشامل يتعلق بمجموعة مركبة من الأنشطة الصفية واللا صفية، ومدخلات وعناصر المحيط المدرسي والتعليمي والثقافي والاجتماعي المؤدي إلى نتائج سلوكية مقصودة ومحددة. والخلل القائم لا ينحصر على الكتاب، بل يشمل البيئة التعليمية وعناصرها المتداخلة، ومن ذلك المدرس، والبيئة المدرسية، والساحة، والمسرح المدرسي، والتربية الفنية والموسيقية، والتربية البدنية والرياضية، وطابور الصباح، وتحية العلم، والإذاعة المدرسية، والمبادرات الاجتماعية، وجماعات الكشافة، والخدمة العامة، والفرق العلمية والأدبية، وسلسلة لا تنتهي من الأنشطة والتربية السلوكية، التي تبني قيم الولاء والانتماء الوطني، وقيم المحبة والتكافل والتعاون والسلام الاجتماعي، والتضحية والإيثار. الخلل الميداني في التنشئة وبناء القيم يحدث في المحيط خارج صفحات الكتاب المدرسي، من خلال المدرس الذي يعبئ الأجيال بقيم خارج الأهداف التربوية الوطنية التي حددها القانون والدستور وفلسفة التربية الوطنية.. وتتمثل في استنكاف رفع العلم الوطني واستنكار أداء تحية العلم تحت ادعاء صنمية الوطن واستبداله بوطن في الماضي وفي النصوص وفي مخيلة مريضة متطرفة تنزع إلى العزلة والعدوان والتحريض وإلى الغربة عن المجتمع. فضلاً عن التصرفات المحرضة على الكراهية وتنمية الولاءات الضيقة: المناطقية والفئوية والفكرية التي تتبناها عناصر التخريب والانفصال في بعض المحافظات الجنوبية، والعناصر الحوثية في صعدة، من خلال رفع أعلام بديلة عن العلم الوطني، وشعارات ورموز ذات نزعات مناطقية أو سلالية أو مذهبية، وهتافات وتصورات منحرفة تجسد العزلة والتفكك والتحريض على العنف وتقوض السلام الاجتماعي. هذه البيئة المدرسية والأنشطة اللاصفية والمؤثرات والمدخلات والتعبئة السلبية، والتنشئة السياسية والفكرية المنحرفة، هي المسؤولة عن إنتاج القيم المناقضة لأهداف التعليم الوطني وفلسفته، ناهيك عن ضعف القدوة والمثال في الحياة العامة، واستشراء قيم الفساد والكسل والتسيب والفوضى واللامبالاة، وهي النصف الضائع من المشكلة الذي لم يدرس ولم يضبط. وهاهو جيل الوحدة أصبح ضحية لثقافة الكراهية والانقسام والافتئات، وأصبح الكتاب المدرسي معه حبيس أوراقه، غير قادر على التحول إلى سلوك وطني إيجابي على الأرض في بيئة التنشئة الوطنية، ما يستلزم تحليل وتقييم البيئة التربوية والتعليمية الواسعة والحاضنات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يفترض أن نعول عليها إعادة إعمار وبناء القيم الوطنية في وجدان الأجيال، التي تتعرض للإفساد والتدخل المتعدد خارج المرجعيات الفلسفية الوطنية الدستورية والقانونية.