قديماً قال: هرقليطس الحرب أم التاريخ، ففيها يسقط أناس في وهدة الاستعباد، ويرتفع أناس إلى مقام السادة. وصدق كلامه هذا على مصير داريوس وفارس؛ ففي معركة جواجاميلا ختم على مصير الإمبراطورية الفارسية عام 331 قبل الميلاد على يد الشاب القائد العسكري الأسكندر المقدوني. وكان جواب الغرب على صدمة الشرق مع معركة ترامبولاي وسيلاميس عندما هاجم كزركسيس اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، فجاءه الجواب على يد التشكيلة العسكرية التي عني بها فيليب والد الأسكندر قبل أن يتم اغتياله. كان الخيال يجمح بي حينما قرأت الفقرة التي وصف بها توينبي معركة جواجاميلا أنها كانت أشبه بصدمة مطرقة حديدية لجرة من الفخار، حيث تقابل نصف مليون جندي فارسي مع 45 ألف جندي مقدوني، وكانت الغلبة للقوة الصغيرة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة والله مع الصابرين. وفي القرآن في كل من سورتي البقرة والأنفال تقعيد لمفاهيم القلة والكثرة، فأما سورة الأنفال فقالت: إن بإمكان عشرين صابرين أن يغلبوا مائتين، بمعنى أن نوعية التركيبة الإنسانية يمكن أن ترفع القوة عشرة مرات، ثم نزل القرآن إلى مستوى الاثنين، فقال: إن يكن مائة صابرة يغلبوا مائتين، وفي كل مرة يؤكد أن الصبر مفتاح النصر. وهي الكلمة التي وجهها طارق بن زياد للمسلمين فقال لجنوده: عليكم بالصدق والصبر فإنهما لا يغلبان فسقطت شبه الجزيرة الإيبرية في أقل من عام بيد جيوش الفتح الإسلامية بسبب الفساد والظلم فرحبت الجماهير المسكينة المتعبة بالفتح الجديد. وهي قصة تتكرر دوماً بما فيها حملة نابليون على مصر، فقد وجه لأهل مصر كلاماً يذكر فيها عدله وظلم المماليك. أما القصة التمثيلية لهذا الموضوع فهي قصة داوود وطالوت وجالوت. حيث تساقط معظم الجنود في طريق الاختبار مع طالوت، وفي النهاية بقيت قلة صابرة دعت الله ربنا أفرغ علينا صبراً ووثبت أقدامنا فنصرهم الله وما النصر إلا من عند العزيز الحكيم. وفي قصة الأسكندر عبرة، وكان الخيال يجمح بي أنه كيف تمكنت هذه القوة من قهر الإمبراطورية العظيمة؟ حتى رأيت فيلماً تمثيلياً بثته قناة الجزيرة الوثائقية ولم يكن أمامي سوى مباراة كرة قدم ولكن بالسيف والطعان ومصرع الأبطال. لم يكن يخطر في بال داريوس أن تهزم هذه القوة الهائلة التي جمعها من أنحاء الإمبراطورية ابتداء من النوبة حتى أفغانستان، ولكن الضعف كان فيها، بسبب شرذمة الجنود وتباين لغاتهم وخلفيتهم ثم كانوا مرتزقة ليس عندهم الولاء لإمبراطورية تستعبدهم. واللعبة التي لعبها الأسكندر كانت ممتازة حيث مشى بمحاذاة الجيش الفارسي بالخيالة في 7000 آلاف فرس والفرس لا يفهمون ماذا في رأسه؟ كان ذلك في وضح النهار فقد اقترح عليه في ذلك اليوم من أكتوبر بارمينيوس قائده المقرب الهجوم في الليل فقال: كنت سأفعل لو لم أكن الأسكندر؟ وبجر خيالة الفرس من قاعدتهم انتهز الأسكندر ثغرة في الصفوف فاقتحم المشاة، فلما أرادت الخيالة الفارسية صدّه كان عنده مجموعة من المدربين المشاة المرافقين له يطردون خيالة الفرس فاقتحم والتف خلف الجيش الفارسي فانفلق، والكماشة هي أشنع ما يقع فيه جيش وأصبحت علماً عسكرياً، ويعتبر هانيبال القرطاجي التونسي أبرع من طبقها، وهذه له قصة. كان الضغط الفارسي هائلاً على مشاة الأسكندر ومشكلة الاتصالات كانت عويصة في تلك الأيام تستخدم فيه الأبواق والطبول بإشارات وقرعات. وإذ ترنح الجيش الفارسي لجأ داريوس خوفاً من القتل إلى الهرب، وكانت حروب تلك الأيام تنتهي بقطع الرأس أي كش ملك. فآثر الأسكندر أن يترك الملك الفارسي يفر وسارع لإنقاذ مشاته في مجرزة بشرية مروعة تم قتل ما لا يقل عن خمسين ألفاً من جنود الفرس طعنا وسلخا وقطعا، وخسر هو ألفا، فهذا هو الجنس البشري يفسد في الأرض ويسفك الدماء ورسم التاريخ أحمر قانياً إلى حين ولادة الإنسان الجديد..