من المعلوم أن من أهداف الاستشراق التشكيك بمنهجية التأصيل الفقهي والفكري، كقولهم مثلاً: إن علماء الحديث اهتموا بالسند واعتنوا به عناية منكورة، لكنهم أئمة الفقه الإسلامي لم يعتنوا بنقد المتن أي نص الحديث وهذا أدى إلى .صناعة فكر سطحي في الفقه الإسلامي. وهذا بدوره ثمرة ثقافة إسلامية مهتزة تركن إلى المنامات، وتستسلم لقضايا غيبية غير ثابتة سنداً، ومتهافتة المتن الأمر الذي أثمر غيبوبة في العقل الإسلامي عموماً غيبوبة حضارية مطلقة وبالتالي: فالعقل العربي والمسلم هو عقل بدوي في العصر الحديث كما هو في القديم عقل عاجز عن صناعة أي تقدم أو نهوض حضاري وأن الطفرة الحضارية التي ظهرت عبر التاريخ الإسلامي فهي مقتبسة عن العقل الأوروبي الذي هو سليل بل مصدر كل الحضارات؟ هذه المغالطة الاستشراقية، تخلط الحق بالباطل، وتنتزع أحكاماً بنيت على مقدمات غير صحيحة، فالمقدمات مبتسرة وقاصرة، والأحكام كذلك لا تقل مجازفة، وبالتالي فهي أحكام غير دقيقة صادرة عن عقلية استشراقية مريضة قتلها الحقد، وأعماها التعصب، هذا الموقف الاستشراقي الماكر المتقمص ثوب الموضوعية والبحث العلمي، وهو الأبعد عن أبسط القواعد المنهجية ، لاسيما في صدد نقد متون الأحاديث إزاء هذه العقلية الملتوية، حاولنا الاقتراب كثيراً من هذه الدعاوى وسبر غورها ومدى مصداقية دعوى البحث العلمي حاولنا الإجابة على السؤال التالي: هل صحيح أن التراث الفكري الإسلامي لا يملك منهجية علمية لاسيما في ميدان نقد متون الأحاديث وقبل الدخول في تفاصيل الإجابة أود الإشارة إلى أن الإجابة على السؤال الآنف، تفصيلاً وإجمالاً، قد سبقنا إليها فقهاء كثر في العصر الحديث وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور الفقيه مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه الرائع السنة ومكانتها في التشريع، وسيكون دوري هنا هو تلخيص لأهم القواعد المنهجية في قبول متن الحديث عند جمهور العلماء والبالغ عددها “15” قاعدة، لا يقبل الحديث “متناً” إذا صادم واحدة منها فأكثر.. وسيصل الأستاذ السباعي في النهاية إلى القول: بأن جمهور أهل العلم اتفقوا على هذه القواعد وأنها كانت حاضرة عند مواجهة الفقهاء لحركة وضاعي الحديث حركة الكذب على رسول الله ولا يستغرب القارىء إذا قلنا حركة الوضاعين نقول نعم لقد كانت هناك حركة بكل ما تحمله الكلمة من معنى هدفها الدس والكذب على رسول الله، لتشويه الشرع وطمس حقائق القرآن المحفوظ، ومنهجية الرسول ومقاصد تصرفاته!! ثم لماذا يستغرب القارىء ، وهذا الإمام البخاري يقول بأن جامعه الصحيح البالغ عدده “2750” فقط وبدون تكرار قد تم استخراجها من بين “700” ألف حديث؟! نترك للقارىء استخراج النسبة.. وإذن: فإن للعلماء منهجية صارمة لا تقبل أي متن لأي حديث مهما بلغت صحة سنده، فلا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، وهذا الاختلاف فيه، وسنجد أن الأستاذ السباعي رحمه الله وهو يناقش مغالطات المستشرقين أنه قد توصل إلى حقيقة هامة لا مراء فيها، وهي أن المنهجية المتمثلة في قواعد قبول متن الحديث “موجودة” ولكنها لم يتم تفعيلها لاسيما بعد دخول عصر التقليد وإغلاق باب الاجتهاد وعليه: فإن فقهاء العصر مطالبون بتفعيل هذه القواعد، فهي كفيلة بإقامة فكر إسلامي ناقد ناهض واعد قادر على الإجابات المستجدة، كما أنه قدم إجابات وحلولاً للمشاكل في العصور الغابرة، ويجزم كاتب هذه السطور: أن تفعيل هذه القواعد كفيل بإسكات الحقاد على كل ما هو إسلامي العملاء الحضاريون، ودعاة الانصهار والذوبان في عولمة الغربية إضاعة الهوية كما أنها كفيلة بتوجيه وتعديل النظرات القاصرة لدى قراء الفقه الإسلامي فقهاء التقليد وكذا تقويم الفكر الوعظي الخطابي الذي قد يدغدغ الوجدان لحظات تم يتلاشى، وقد يترك آثاراً سلبية قاتلة للفكر ومضادة للمنهج العلمي، ومع أن الحديث ذو شجون في هذا الصدد غير أني سأنقل سرد هذه القواعد المنهجية المتفق عليها لدى جمهور الفقهاء، والخاصة بقبول “متن الحديث” ثم سأعلق بأمثله سريعة حسب ما هو متاح فإلى القواعد: 1 ألا يخالف بدهيات العقول. 2 ألا يخالف القواعد العامة في الحكمة الطب والأخلاق. 3 عدم ركة ألفاظه. 4 إلا يخالف الحس والمشاهدة، كالحقائق العلمية. 5 ألا يخالف سنن الله في الكون والإنسان. 6 ألا يدعو للرذيلة الانحطاط بإنسانية الإنسان، فالمساس بإنسانية الإنسان حاربته جميع الشرائع. 7 ألا يخالف المعقول في العقيدة والصفات. 8 ألا يشتمل على سخافات يصان عنها العقلاء. 9 ألا يخالف القرآن. 10 ألا يخالف متواتر السنة المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام والإيمان، والحدود والقيم هكذا قال الشافعي وابن القيم أضاف جمهور الأصوليين علماء المقاصد قبول المتن ما لم يصادم مقصداً من مقاصد الشريعة. 11 ألا يخالف الحقائق التاريخية المعروفة عن أيام الرسول والصحابة. 12 ألا يوافق مذهب الراوي. 13 ألا يكون الرسول قد أخبر عن أمر وقع في مشهد عظيم، ثم يأتي ويخبر به واحد فقط. 14 ألا يشتمل على إفراط في الثواب والعقاب على الحقير من العمل. 15 ألا يكون ناشئاً عن باعث نفسي. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله ثلاث عشرة قاعدة في قبول المتن، اتفق مع الجمهور في بعضها وسنذكر القواعد التي خالف فيها الجمهور، وهي: 1 ألا يحمل الراوي بخلاف ما روى، قلت وهذا هو مذهب جمهور المحدثين القدامى بما فيهم الإمام أحمد بن حنبل. 2 ألا يكون في الحديث زيادة ضد التيسير. 3 ألا يكون فيما تعم به البلوى العلمية أو العملية، أي أن المحدث يتفرد بحديث في حين سائر الصحابة لا يعلمون مع أنه من الأمور العلمية العامة. 4 ألا يكون قد سبق وأن طعن فيه أحد من السلف المعتبرين. 5 أن يستمر حفظ الراوي ويتفق مع كتابه المسند. 6 ألا يخالف المتوارث، وهذا أيضاً مذهب مالك الذي اعتبر عمل أهل المدينةحجة ومقدم على رواية الأحاد، ولهذا نجد الإمام مالك يقول ببدعية صيام الست من شوال لأنه أدرك فقهاء من التابعين في المدينة لم يقولوا بصيامها ولم يصوموها لأنهم لم يجدوا الصحابة صاموها؟ وأما الرواية عند مسلم ففيها سعيد بن سعيد فهو عابر لكنه في مجال الرواية فيه لين، وليس بذاك ، كلام مالك قلت: الست من شوال صيامها ليس فرضاً وإنما نافلة وعليه فلا ضير من صيامها، ذلك أن الإشكال فيما يمس الفرائض والمقاصد، بالنسبة للقاعدة “ألا يخالف” القرآن فهي قاعدة متفق عليها عند الجمهور، وعند أبي حنيفة “ألا يخالف عموم القرآن” ولكل من الصيغتين دلالتها وأثرها في الفقه، ويرى الإمام مالك: أن القرآن مقدم على الرواية من ستة أوجه وهما التالي: يقبل متن الحديث ما لم يخالف قطعي القرآن، وظاهر القرآن، وعبارة القرآن وإشارة القرآن، ، ودلالة القرآن، ومفهوم القرآن. وهذه المصطلحات، يعرفها فقهاء الأصول، ولولا ضيق المقام لشرحناها وضربنا عليها أمثلة إيضاحية. الخلاصة: 1 إننا نملك منهجية رصينة لا يملك أمامها أن يتسرب أي خلل فكري. 2 دعوى المستشرقين رخيصة باهتة. 3 تفعيل هذه القواعد كفيل بإنشاء ثقافة فكرية فقهية حضارية ناهضة، 4 لسنا بحاجة لقواعد النقد الوافدة فإن ما لدينا قد تضمنها معنوياً لا لفظياً. 5 لا يعني هذا رفضنا للاستفادة من مناهج الآخر في البحث العلمي، وإنما نقصد هنا لا مانع من الاستفادة، من الآخر بهدف توسيع مدارك العقل، لأن قواعدنا المنهجية مضبوطة وناجمة عن نضوج علمي وفكري حضاري. 6 لا لوم على جمهور أئمة السلف، وإنما على المتأخرين الذين أضاعوا العمل بهذه المنهجية حتى غابت تماماً، وأصبح تعلمها لغرض العلم أن هناك قواعد فقط وليس لغرض التطبيق.