في داخل كل منا وميض للعبقرية ولكن لانستخدمه أو يعطله المجتمع بطريقة ما فينطفىء الى غير رجعة. وكل منا كون بديع ولكننا لاننتبه الى هذا. ويحاول البعض أن يقلد آخرين وهو محمود إذا كان لتطوير هذا العالم. ولكن الذي يحصل أننا نقتل الابداع دفعة واحدة بالتقليد. وليس هناك مرض قاتل مثل التقليد، فمع كل تقليد استلاب لملكة ابداع وتفرد. والتقليد يعيق ولادة العالم الجديد الذي يمثله كل واحد منا، وعندما نسمع قصص وميض العبقرية عند نخبة من الناس نعرف أن الجنس البشري كله يدين بفضل تقدمه الى نفر قليل من المفكرين الرائعين الذين كسروا التقليد. وأنا شخصياً أعرف هذا الموضوع جيداً وأعرف الطريق الطويل الذي مشيت فيه حتى وصلت الى التخلص من أسر كثير من المسميات التي تعضل ولادة كل فكرة جيدة. ويبقى أن نعلم أن ولادة العبقريات ظاهرة اجتماعية وعندما يتغير الوسط تتهيأ النفوس لإفرازات مباركة وتدفع بفكر جديد في مفاصل المجتمع فيتحرك الى الأمام، ونحن اليوم عندنا عبقريات مدفونة بسبب أن الوسط لايشجع وإذا برز واحد نظرنا إليه بشذوذ كما تفعل الدجاجات بالدجاجة المجروحة فتنقرها حتى الموت، ونحن نعالج مثل هذا الشذوذ بألوان شتى من الاضطهاد والسخرية والمنع لأنه خالف المألوف، والمجتمع معه الحق في جانب من هذا الأمر، لأن التغيير خطير و هو يعيق استمرارية وجود المجتمع وإعادة إنتاج نفسه. ومثلاً في أوروبا نرى منذ القرن السابع عشر تدفق جيل كامل من المبدعين ومازال التيار يعمل ويكرر إنتاج المتميزين بدون توقف بسبب الوسط المشجع لأي فكرة جديدة على العموم مع استثناءات محدودة فهو وسط يقوم على احتضان وتشجيع الأفكار الجديدة، وبالعكس فالوسط التقليدي الذي يتهم ويخاف من الأفكار الجديدة يكبل نفسه فلايتقدم حتى يأتي من يتحلى بالإبداع والجرأة فيكسر جمود الوسط وتبدأ الحركة الفكرية ويحدث غليان اجتماعي وتحدث مواجهات وتصادمات، ولكن ما يثبت في الأخير يخضع للقاعدة القرآنية أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال. والمجتمع عنيد يقاوم جداً ويدافع عن نظامه الفكري بلهيب نار وسيف يتقلب ويصل الى درجة الأذى لمن يتجرأ فيلمس القضايا الحساسة فيه ولو كانت هذه القضايا تتعارض مع التفكير السليم بحيث لو جلس اثنان فتناقشان وصلا بسهولة الى أن هذا الأمر خطأ ويجب أن يغيّر والسبب هو ضغط العادات وتوقف التفكير التي تقتل كل إمكانية تغيير حتى حين. وقد يقول القارىء إن هذا الكلام جيد ونحن نوافق على ذلك ولكن عند التطبيق يختلف الناس الى درجة الاقتتال وكل ذلك بسبب ضغط العادات التي هي في كثير منها مواضعات واتفاقات من البشر في وقت ما، وكما في أي تغير مثل اللباس والفصول كذلك الحال في الأفكار، فإذا بلي الثوب رميناه وعملنا ثوباً جديداً.. إن هذا بسيط ومتفق عليه ولكن في الأفكار يقترب من المستحيل، ومن هنا كان الموت جيداً في جانب لأنه يأخذ معه جيلاً لن يتغير حتى يأتي جيل جديد جريء على التغيير.. ولله في خلقه شؤون.