لا نجد في تجربة «ناس الغيوان» حضوراً كاسحاً للعاميّة الفنية التي تنحسر في دائرة ضيقة من المستمعين المتآلفين مع نوستالجيا المكان والزمان، بل هناك اشتغال حقيقي على الألحان، تطويعاً وارتقاءً بقابليات الإيصال إلى مدى أوسع، ويتجسد هذا الاشتغال فيما يلي : التنازل الإجرائي المسبق عن مركزية الفنان «المغني» ، وبالتالي التنازل أيضاً عن مركزية العازف الفرد، ولكن دون الإخلال بالعطاء الفردي «الصوليست» في مستويي الأداء والعزف، والحال فإن معيار الصوت ليس نمطياً يستعيد الجمالي من خلال المألوف، بل إنه يربط بين التعبيري والجمالي، فلا بأس إذاً أن يكون كل واحد مؤهل لأداء صوتي معين يتناسب مع طبيعة التعبير المطلوب في الجملة اللحنية . ها نحن إذاً أمام «موت» مؤكد للمغني الفرد والعازف الفرد، تماماً كما ذهب «رولان بارت» ذات يوم وهو يعلن عن «موت المؤلف» ، وتماماً كما ذهب المتصوفة الكبار وعلى رأسهم «الأندلسي المغاربي اليماني الشامي المصري» الشيخ محيي الدين بن عربي الذي كان قد مارس هذه الحقيقة خياراً واختياراً ونظّر لها في كتاباته. إن التنازل الإجرائي الجمالي عن مركزية المغني الفردي والعازف الأوحد عند «ناس الغيوان» يحيلنا مباشرة إلى فلسفة الأداء الجماعي الذي يصهر الناس «مبدعين ومتلقين» في أتون الدائرة السحرية للفن التطهري، وسيلاحظ المستمع الحصيف كيف يتبادل الكورال النص كأنما يقيمون مباراة حرة للبديع الفني، وكيف يتطاير العازفون مع التخريجات المفاجئة لجملة لحنية «خارجة» عن السياق، ولكنها في ذات الوقت لا تحيد عن اللازمة المركزية في البناء اللحني.. نوع من حرية التعبير الذي يتواشج مع «تروحن» الحضور المشارك والمستمع، ذلك الحضور المتحرر الشبيه بما أبهر ذات يوم بعيد علماء الموسيقى من الفرنسيين الذين أوفدهم نابليون بونابرت إلى مصر، واحتاروا في كيفية تدوين الموسيقى الشعبية المصرية حتى إنهم اعتبروها موسيقى غير خاضعة للسلالم والقوالب اللحنية، غير أنهم وبعد جهد جهيد اكتشفوا إمكانية تدوين لتلك الموسيقى، لكنهم اعترفوا أيضاً فيما كتبوه في موسوعة «وصف مصر» بأن العازف والمؤدي في الموسيقى الشرقية يتمتّع بقدر كبير من الحرية المقرونة بالذائقة وثقافة الاستماع المؤصلة في ذاكرة التاريخ . تتبعت قبل سنوات عازفي الإيقاع الهنود الذين رافقوا الأغاني القديمة للفنانة الهندية الاستثناء «لاتا منغشكر» فتيقّنت بأنهم ليسوا عازفين اعتياديين، بل حكماء موسيقى بامتياز، فالإيقاعات المتبادلة، والتدوير العجائبي للأبعاد، والتناغم مع المدى المفتوح.. سمة غالبة على أمثالهم، حتى يخيل إليك أن الواحد منهم يتشرّب الموسيقى مع بدايات توقيع أقدامه على الأرض وهو طفل صغير.