القراءة تضمين لجهد تشترك فيه الحواس المختلفة، فالصوت الصادر عن القارىء يتوازى مع أُذن مستمعه، والصوت الصادر عن القارىء يتميز بذبذبات نوعية خاصة بالمصدر الذي منه يصدر ذلك الصوت، وعند القارىء تتضافر عوامل نفسية وصوتية وإشارية لتحدد قدرته في الوصول إلى المستمع، لكنه إلى ذلك يسمع نفسه أيضاً، وبالتالي، فإن القراءة بالجهر ليست موجهة للآخر المستمع، بل أيضاً الأنا القارئة، فلعل القراءة الذاتية الجهرية للنصوص القرآنية تؤثر بقدر كبير على نفسية القارىء كما على نفسية المستمع أيضاً، وحتى القراءة الهامسة أو الصامتة لها أثرها الخاص على من يقرأها، والشاهد أن القراءة الصامتة أميز في أثرها العقلي والذوقي على القراءة بالجهر. آية ذلك أن كبار المفكرين الموهوبين يقرأون صمتاً، والبعض منهم يتمكن بالدربة والمران من قراءة الأسطر بصورة خاطفة فيحيط بكتاب كامل من مئات الصفحات خلال سويعات من نهار. يتعجّب الذين لم يألفوا هذا النوع من القراءة الصامتة المستغورة في المعاني والمتوازية مع الكلمات والأسطر، والبعض من ذوي الملكة والدربة يستطيعون تمييز الكتاب الغث من الكتاب المفيد بمجرد تصفح الفهارس، وقراءة شيء من المقدمة، وهذا ليس غروراً منهم، بل استدعاء ضمني لمعارف ألفوها وتمرغوا في أبعادها، فإذا وجدوا أن لا جديد في الكتاب وضعوه جانباً غير مأسوف عليه، وهؤلاء النفر من الموهوبين أصحاب العلم المطبوع يميزون الكتاب الجيد كما يميز تاجر الجواهر أنبل الأنواع وأجودها وأغناها بمجرد الرؤية والملامسة، وكما يميز الطباخ الحصيف الطبخة من لونها ورائحتها، وكما يميز الطبيب الحكيم المريض لمجرد مشاهدة الأعراض الخارجية لجسمه. لهذا يمكننا القول :إن قراءة الكتب فن قائم بذاته، وأن التقاطات الرائي الحصيف يصل إلى مصاف التفقُّه في المعرفة العالمة التي قد تنبثق من مشاهدة عابرة، وقراءة يسيرة، فالمعروف أن بعض هواة اقتناء الكتب لا حظ لهم في استيعاب تلك الكتب، وهؤلاء يحملون على ظهورهم تراثاً كبيراً من المعارف، لكنهم لا يقوون على الاستفادة منها، وهنالك من لا يقتني الكثير من الكتب، لكن حسن الاختيار، والتركيز على الجواهر والدرر يمنحانه طاقة معرفية وذوقية سامية، ولله في خلقه شؤون.