في قصيدة عربية مغناة لا يحضرني اسم صاحب كلماتها, كانت دائما تستوقفني عبارات تحمل المتناقضات والمعاني التي تشكل لغزا لمن لا يفهم أبعاد الأبعاد .. ومن بين ما حملته في طياتها: صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة أنا في الظل أصطلي لفحة النار والهجير وضميري يشدني لهوى ما له ضمير وإلى أين لا تسل فأنا أجهل المصير.. في سنوات خلت كنت أمر عليها مرور الكرام ولا يشدني سوى المتناقض .. واليوم أجدني مع رحيل كل عزيز أو قريب سواء كانت تلك القرابة عائلية أو مهنية كما هو الحال بالنسبة لعائلتنا الصحفية التي فقدت قامات إعلامية في عز شبابها وفي مقدمتهم يحيى علاو وعبدالقادر موسى ومهيوب الكمالي ونجيب الشرعبي وطارش قحطان ..أجد نفسي أردد من الأعماق " صحوة الموت ما أرى .. أم أرى غفوة الحياة ".. ليس هناك شيء متناقض كما كنت أعتقد زمان, العبارة صح مائة بالمائة .. ليست الغفوة عندما نموت وليست الصحوة عندما ننهمك "على الآخر" في شؤون الحياة ونتسابق عليها بمخالب وبدون مخالب . عندما ننسى الموت , ننسى أن نوفر لأنفسنا الرصيد المناسب لما بعد الموت .. ننسى بصريح العبارة " القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية " التي تغذي هذا الرصيد إذا ما وجدت وتسحبه إذا ما تخلينا عنها .. غفوة الحياة هي التي تدفعنا إلى التسابق والتزاحم والتنافس على مظاهر وإغراءات المقتنيات والممتلكات الفاخرة كالسكن والسيارة والمأكل والمشرب والملبس .. نفكر في تأمين السكن لأولادنا بأي طريقة ومن مال حرام أو حلال , المهم أن نبني مسكناً قد نسكن فيه أو لا نسكن .. ثم عندما تأتي صحوة الموت ندرك " غفوة الحياة " وندرك خواء التفكير الذي كنا عليه ووهم السكن الذي اقتطعناه من أغلى ما نملك وهي القيم والصدق والأمانة. غفوة الحياة لا تعني أننا نخسر ديننا فقط , وإنما نخسر كذلك دنيانا , لأننا نعيش بلا قيم ولا صدق ولا أمانة ولا نظام ولا قانون .. مشكلتنا ليست في "البشر" الذين يحكمون ولا في " الملائكة " الذين يعارضون ولا في تعديل اللوائح والقوانين .. لكن مشكلتنا في القيم التي نتخلى عنها وندوس عليها من أجل مصالح ذاتية ضيقة . وحتى عندما يكون هناك أناس شرفاء يتحلون بقيم أصيلة تربوا عليها في بيئة أصيلة نضطرهم إلى التخلي عنها بسبب أكثريتنا وأقليتهم .. ومن يتمسك بها يصبح قابضاً على جمر ,, ويضع الناس المقارنات الظالمة والجائرة بينه وبين من يعيش غفوة الحياة .. يسمون الأشياء بغير مسمياتها ولا يقولون عن المسئول الملتزم والنزيه والشريف بأنه كذلك وإنما يصفونه بالمسكين والغبي والجبان .. أما الفاسد فيقولون عنه شجاع و" سمخ" لمجرد أنه في الحقيقة لا يخاف من الله " بصريح العبارة". وصحوة الموت تجعلنا نراجع كل ذلك ونكتشف أن المسكين والغبي والجبان هو ذلك الذي لا يخاف الله ولا يتقي الله في المسؤولية وفي الأمانة الملقاة على عاتقه ولا في الناس الذين ظلمهم وأكل حقوقهم وبنى من قوتهم مسكنه الفاخر وسقى من عرق جبينهم مزرعته وبستانه وشحن من ريقهم وقود سيارته الفارهة. صحوة الموت لا بد أن تعيدنا إلى القيم .. والخوف من الله هو من يشحذ في نفوسنا وقلوبنا وعقولنا طاقة لمقاومة إغراءات " غفوة الحياة " .. الفاسدون يزرعون في نفوسنا الحسرة والحسد وتمني نعيماً نعتقده مغنماً .. والصالحون حتى ولو نسيناهم في غفوة الحياة .. فإن صحوة الموت وحب الله الذي ينعكس في حب الناس وترحمهم يجعلنا نتحسر على كل لحظة تخلينا فيها عن قيمنا , ونغبط كل لحظة خير وفلاح اغتنمها أولئك الذين قبضوا على جمر الدنيا المؤقت ليدرؤوا عن أنفسهم جمراً أخروياً ليس له نهاية. .. ليس مقالاً أخروياً ما كتبته .. ولكن في صلب حياتنا الدنيوية وشؤوننا الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية ومن أجل دولة النظام والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد والفقر والبطالة والاختلالات المالية والإدارية, ومن أجل غدٍ أفضل ومستقبل مشرق نؤمنه لأولادنا .. ينبغي علينا أن نتخلص من غفوة الحياة ونستلهم من صحوة الموت ما يجعلنا نقبض على جمر القيم والمبادئ ..لا سبيل لنا بغير ذلك!!؟؟.