من يتابع وضعنا العربي فيما يخص العمل المشترك بين الدول سيجد أن الصراعات بين القوى السياسية وبين الدول نفسها والتناقضات الإيديولوجية التي أفرزتها التيارات المتعددة، أوجد حالة من الشك والخوف وانعدام الثقة، وما عمق من حالة عدم الثقة سلوك بعض النخب الحاكمة والتيارات السياسية في توظيف مفاهيم الوحدة والعمل المشترك لتبرير الأعمال غير المشروعة، وهذا أعاق أي محاولات لتفعيل العمل العربي المشترك. لعبت التدخلات الأجنبية دوراً كبيراً في إعاقة تحقيق الأهداف القومية المعلنة للدول الوطنية، إلا أن الصراع العربي العربي كان له الدور الفاعل في عرقلة العمل العربي المشترك، كما أن الوحدة كمفهوم وخيار تم أدلجته لدى التيارات القومية ومن خلال الايديولوجية بأبعادها المعيارية تولد صراع عنيف بين مختلف القوى الوطنية داخل كل دولة وبين الدول العربية نفسها، وأدت الصراعات الماضية ومازال بعضها موجوداً إلى فقدان التوازن وأصبحت الوحدة العربية خياراً مخيفاً لدى البعض وخيار انتهازي لدى نخب أخرى لحماية المصالح الوطنية “للدولة القطرية” أي ان شعار الوحدة تحول إلى قوة ضاغطة منتجة للصراع، ومن خلاله تم انتاج صراعات في المنطقة خلقت بيئة نفسية معادية للمفهوم، ومن خلال شعار الوحدة تقاتل العرب بالكلام والسلاح وصارت الوحدة هي الخاسر الكبير. دعوني هنا أضرب مثلاً بسيطاً في تعامل بعض التيارات القومية في اللحظة الراهنة مع الدولة الوطنية، سنجد أن هناك رفضاً لفكرة الوطنية باعتبارها نقيضاً للقومية، وهذا الكلام في ظل رسوخ قوة الدولة الوطنية لم يعد ذات جدوى، المشكلة أن طرح كهذا جعل القومي يعادي الدول الوطنية ونخبها السياسية بالذات الحاكمة وبالتالي أدخل نفسه وافكاره بنزاع مع تلك القوى وهذا دفعها في الغالب إلى الدخول بمواجهة مع الفكر القومي ومحاصرة اصحابه، والصراع مع النخب السياسية عزل الفكر القومي عن مراكز صناعة القرار. ربما يكون صراع التيار القومي مع الأنظمة داخل الدولة الوطنية لا علاقة له بالأفكار القومية وإنما بالمصالح المتنازع عليها في المجتمع وهذا الصراع لا يؤثر كثيراً على الطرح القومي، ولكن تبني مواقف سلبية من الانظمة وفق منظورات إيديولوجية من قبل التيار القومي بشكل عام خلق حاجزاً بين القوى الفاعلة في الدول والتيار القومي وولد صراعات عبثية لا علاقة لها بالأهداف القومية على مستوى الواقع. لم يتمكن التيار العربي من تجديد نفسه وظل رهينة لأفكاره التقليدية أو رهينة لأنظمة محترفة في تبني القومية كشعار لترسيخ شرعية وجودها المحلي وخلق تيار في المنطقة داعم للنخبة الحاكمة ومصالحها دون تقديم شيء يذكر لتطوير العمل المشترك بل الدفع في إتجاهات صراعية عدمية معيقة ومعرقلة لعمل عربي عقلاني ومتزن. صحيح أن كثيراً من القوى الحاكمة الصانعة للقرار في الدولة العربية مهمومة كثيراً بمصالحها الآنية، وهذا جعل أغلبها غير قادر على التفكير بالمستقبل، إلا أن النخب المهيمنة هي تعبير عن قوى حقيقية في الدولة، ولها الحق الكامل في الاستجابة لتلك المصالح، ومحاولة نفي مصالح المهيمنين على القوة المتحكمة في صناعة القرار يخلق حالة من الفرقة والشتات، المطلوب هو تفهم مصالح الدولة الوطنية ومن يمثلها وترك التحولات الداخلية لكل دولة تسير وفق ظروفها الداخلية وتفاعل القوى المختلفة والمتأثرة تلقائياً بالتحولات الإقليمية والعالمية هو من سيحدد طبيعة توزيع السلطة والثروة وعلينا أن ندفع بهدوء لصالح الأفعال الخادمة لمصالح المنطقة مع تفهم وجهات النظر لجميع الأطراف. قراءة في المبادرة اليمنية قد يبدو صانع القرار اليمني في سياسته الخارجية أكثر نشاطا وحيوية ومثالياً في طرحه يؤكد ان السياسة الخارجية اليمنية ليست إلا انعكاسا لحاجة اليمن ومصالحه الوطنية، فكثير من المشاكل الداخلية نتيجة قلة الموارد والمشاكل الداخلية بحاجة إلى سياسة خارجية نشطة وفاعلة، فاليمن مجال حركته ضيقة وهو بحاجة إلى منظومة عربية متضامنة يحقق مصالحه من خلالها، وهو يدرك أهمية موقعة لأمن العرب القومي ويدرك مخاطر مشاكله في حالة استفحالها على أمن العرب لذلك فلدى اليمن حس عربي قوي وعميق فرضته تجربته التاريخية وحاجاته الراهنة، ويمكن القول أن اليمن يبحث عن التضامن العربي بما يمكن الأمة من تعزيز اقتدارها على مواجهة التحديات أن العقائد السياسية للرئيس صالح وللنخبة السياسية اليمنية والتي تركز بشكل دائم على المسألة العربية، كما أنه لا يوجد تيار سياسي في اليمن إلا والمسألة العربية محدد جوهري في وعية وفي فهمه لدور اليمن الخارجي، من ناحية أخرىفإن الهوية اليمنية لا يمكن فهمها إلا بوجهها العربي ربما أكثر من الإسلامي وإن كان اليمني لا يفرق كثيراً بين الإسلام والعروبة. ويمكن القول: أن العولمة قد ولدت الكثير من المشاكل على المستوى الوطني واليمن من أكثر الدول العربية تأثراً بالتغيرات العالمية لذا فإنه أكثر إحساسا بضرورة التعاون لمواجهات المعضلات التي فرضتها التحولات العالمية في شتى جوانب الحياة، ويمكن قراءة الحاجة اليمنية المستوعبة لمصالحها ولمصالح الدول العربية من خلال المبادرة التي تقدم بها الرئيس العربي فخامة الرئيس علي عبدالله صالح إلى قمة سرت، فاليمن حسب المبادرة تبحث عن أمة عربية تمتلك: “ استراتيجية سياسية واقتصادية ودفاعية وأمنية واجتماعية شاملة”، وتؤكد المبادرة أن الأمة العربية “ قادرة على إعادة تنظيم وتنسيق وتوحيد قدراتها وإمكاناتها لتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي العربي الشامل”. وصانع القرار اليمني من خلال المبادرة وصياغتها يبدو لي أن حسه التاريخي عالٍ وقراءته للتحولات ناضجة يمتلك مؤهلات إيجابية في صناعة المبادرات وفي الوقت المناسب، كما أن لديه عقلانية من حيث الفهم والحل، فقد أكدت المبادرة في مقدمتها: “أن الظروف المحيطة بالأمة العربية وبالعمل العربي المشترك تفرض بالضرورة، أن تتم إعادة صياغة العمل العربي المشترك من الأساس، وفي الأهداف، لننتقل بالجامعة العربية من وضعها الحالي، مع كافة أجهزتها ومؤسساتها، مستفيدين من إيجابياتها وسلبياتها على مدى أكثر من خمسين عاماً إلى كيان عربي جديد يُسمى «اتحاد الدول العربية» يتوافق مع المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية، ويحقق الأمن القومي لمواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد حاضر ومستقبل الأمة العربية، وتعيق تقدمها وطموحاتها، لتحقيق اتحاد الأمة في النهاية من خلال الوحدة الاقتصادية الشاملة”. والخلاصة أن الفترات التاريخية التي تصاب فيها الأمم بالهزيمة والردة والفشل تمثل اللحظات القلقة والمربكة والتي يبحث فيها المبدعون عن حلول لأزماتهم ويطرحون فيها المبادرات لمواجهة الواقع، علينا أن نتفاءل وأن نبحث عن مخارج لأزماتنا وعلينا أن نتحمل المسئولية وأن لا يقودنا الصراع الداخلي إلى التقليل من شأن اليمن ومن دوره العربي الرائد، فالمبادرات التاريخية العظيمة ليست حكراً على أحد، لقد قذف الرئيس اليمني الحجر في بركة راكدة والتغيير قادم فالعرب أمة عظيمة لا يمكنها أن تستسلم وستواجه مشاكلها وواقعها يفرض عليها أن تفكر بطريقة جديدة.