نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجربة اليمنية نموذجاً
تعانق ثلاثية الدين والإنسان والوطن في كتلة التغيير التاريخية
نشر في الجمهورية يوم 22 - 04 - 2013

تتزامن كتابة هذه التناولة مع تدشين أكبر عملية حوار سياسي يمني شامل بمشاركة جميع الوان التناقضات الاجتماعية والايديولوجية والمذهبية لإعادة كتابة عقد اجتماعي جديد يستجيب لحاجات جميع اليمنيين بعد أن استهلكت معضلة بناء الدولة في اليمن الكثير من الثورات العسكرية و الأزمات السياسية والحوارات الطويلة التي تمخضت عن أكثر من 70 وثيقة دستورية من عام 1948 الى عام 2011م. ويشكل الحوار الجاري في اليمن منعطفاً تاريخياً مهماً ، و ظاهرة سياسية تستدعي الكثير من التأمل والبحث فمن يدرك تعقيدات الواقع اليمني وحجم تراكمات الظواهر السلبية لسياسات النظام السابق وحجم التناقضات الاجتماعية والسياسية والمذهبية والثقافية والنزعات الانفصالية ، مع حيازة اليمنيين لمختلف أنواع الأسلحة و تمرسهم في الحروب الأهلية وحروب الثارات فضلاً عن تواجد جماعات العنف المسلح وبعض امتدادات الصراع الاقليمي الطائفي. من يدرك جميع هذه التعقيدات تعتريه الدهشة من توافق هذه التناقضات على قبول الحوار بعد أن أثبت الشعب مدى قدرته أثناء الثورة على الحفاظ على سلمية ثوريته وإصراره على عدم الاستجابة لمحاولات النظام السابق جرجرته الى مربع العنف مع أن وحدات عسكرية كبيرة أعلنت وقوفها السياسي مع الثورة ولكنها رفضت التورط في حرب هجومية على النظام ، وحين أعلن النظام الحرب على هذه الوحدات و بعض القبائل المؤيدة للثورة لجرجرة الثورة إلى العنف أكتفت هذه الوحدات و القبائل بالحدود الدنيا من الدفاع عن النفس.
هذا التطور في التجربة اليمنية لم يتشكل من فراغ، فقد جاء تتويجاً لمشروع نضالي مشترك صاغته الأحزاب السياسية قبل عشر سنوات حين أعلنت تحالفها السياسي الأول من نوعه في الوطن العربي الذي يجمع اليسار و القوميين مع الإسلاميين بمذاهبهم السنية والزيدية القريبة من الشيعة معلنة بذلك مغادرة مربع الصراعات المتخلفة بعد تجارب مريرة من الحروب الأهلية.
وللتعرف على كيفية تبلور هذه التجربة سنحاول التعريج التاريخي السريع على مسار التجربة السياسية اليمنية وما شهدته من توافقات وحروب أهلية طاحنة في فترات تاريخية متفرقة رافقتها أزمات سياسية وانقلابات عسكرية انهكت المجتمع في دوامة العنف والفوضى.
أول تجربة للعمل السياسي والثوري المشترك
في عام 1948م شهد شمال اليمن أول ثورة دستورية يمنية يعتبرها اليمنيون أم الثورات أو الثورة الأم ، و كان أهم أهدافها تحويل النظام الإمامي العائلي الى نظام إمامي دستوري و نجحت الثورة في السيطرة على العاصمة صنعاء وبعض المحافظات ولكن نحاجها لم يستمر أكثر من ستة وعشرين يوما بعد رفض الجامعة العربية وجميع الدول العربية السبع الأعضاء حينها الاعتراف بالثورة باستثناء لبنان وسوريا، وقدمت بعض الدول العربية الدعم المادي والدبلوماسي للنظام الملكي المنهزم حتى استطاع اعادة ترتيب صفوفه ومحاصرة صنعاء والقضاء على الثورة وإعدام معظم قياداتها واعتقال مئات الضباط والمثقفين المشاركين في الثورة وقد علق حينها مسؤول لبناني علي موقف الدول العربية من هذه الثورة قائلاً “لو اتحد ملوك العرب في قضية فلسطين كما اتفقوا ضد الأحرار في اليمن ما كان في فلسطين حكومة إسرائيلية” وكان هاجس الخوف من انتقال عدوى الثورة من أهم أسباب الخذلان العربي للثورة اليمنية والجدير بالذكر هنا أن النجاح الأولي لهذه الثورة الأم كان حصيلة موقف موحد وأرضية نضالية مشتركة جمعت التيارات الايديولوجية اليسارية والقومية والإسلامية ومختلف المذاهب والطوائف بل اشترك فيها بعض الأحرار من عائلة الإمام الحاكم نفسه وكانت جمعيات الأحرار اليمنيين في عدن تشكل إطاراً نضالياً يضم جميع التيارات وتم اعلان بعض قيادات هذه الجمعية من أعضاء التيارات القومية واليسارية في مناصب وزارية كما تم تعيين أحد قيادات الاخوان المسلمين من دولة الجزائر الشقيقة- الفضيل الورتلاني- كمستشار أول لدولة الثورة، وكان التنسيق للثورة في مقر جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة وأول تأييد لها من جمهوريتي لبنان وسوريا-الجمهوريتان الوحيدتان حينها- وفي ذلك التعاون والتناغم بين القوى الوطنية والقوى الاسلامية تأكيد واضح على أن الانجازات الكبرى في تاريخ العرب والتحولات العظيمة ابتداءً من عصر النهضة منتصف القرن التاسع عشر الى عصر ثورات التحرر والاستقلال إلى عصر ثورات الربيع العربي جميع هذه التحولات ما كان لها أن تتحقق لو لا وقوف القومي والإسلامي واليساري على أرضية نضالية مشتركة لتشكيل الكتلة التاريخية الضرورية لانجاز أي تغيير كبير ولم تتوقف عجلة التغيير وتعود إلى الوراء إلا بعد أن أفسدت الحرب الباردة القاعدة المشتركة للنضال الوطني وساهمت مع ظروف أخرى في تمزيق الصف الثوري والوطني و خلق حالة الاحتراب والصراع المتخلف بين القوى القومية والإسلامية واليسارية ودفع الجميع إلى التترس وراء الايديولوجيات على حساب المشروع الوطني الكبير.
ومع فشل ثورة 1948م في اليمن غير أن عجلة التغيير كانت تحركت ولم يعد بإمكان النظام الامامي الملكي ان يحكم اليمن بنفس العقلية السابقة وتبعت الثورة عدة ثورات قبل نجاح ثورتي سبتمبر واكتوبر في ستينات القرن الماضي مع موجة نجاح ثورات الاستقلال العربية وبعد نجاح الثورة المصرية ، وتطور الصراع في شمال اليمن من صراع حول شرعية الدستور قبل الثورة الى صراع حول المرجعية التشريعية للدستور وكيفية الانتقال من الشرعية الثورية الى الشرعية الشعبية وشهدت اليمن أول مؤتمر شعبي في عام 1963 للمطالبة بتسليم السلطة من العسكر إلى الشعب وانقسم الصف الجمهوري حينها الى صفين، صف مكون من القبائل المؤيدة للجمهورية والإسلاميين المحافظين وحزب البعث في مواجهة الصف العسكري المدعوم من نظام جمال عبدالناصر في مصر وبعض القيادات العسكرية اليسارية المدعومة من الاتحاد السوفيتي وفي مقابل الصفين الجمهوريين كان الصف الملكي الإمامي لا يزال يمتلك مساحة كبيرة من الجغرافيا ويحظى بالدعم من الدول المجاورة وما يزال يقاوم ويفتح عددا من الجبهات العسكرية حتى تمكن من حصار العاصمة صنعاء عام 1967 في الحصار المشهور بحصار السبعين يوما مستفيدا من الصراع العسكري المحتدم في الصف الجمهوري، وقد أجبر هذا التهديد الملكي طرفي الصراع الايديولوجي والاجتماعي على توحيد صفوفهما فالتقت البندقية اليسارية مرة أخرى مع البندقية القومية والإسلامية في خندق واحد للدفاع عن الجمهورية ونجحت هذه الحالة التوافقية في الحفاظ على الثورة و الجمهورية.
وبعد استسلام المعسكر الملكي تطور الصراع بين الاسلاميين واليسار الى صراع عسكري تزعمته الجبهة الوطنية اليسارية والجبهة الاسلامية بالتزامن مع اشتعال الحرب الباردة العالمية بين المعسكرين الشرقي والغربي ليتوقف في عام 1983م. وكان من أهم التداعيات السلبية لهذه الحرب انهاك المجتمع و ترسيخ دعائم الحكم العسكري في شمال اليمن وجنوبه، فكان الشعب بعد هذه الحرب الطاحنة مستعدا لتأجيل أحلامه بالتغيير والتطور السياسي في مقابل الأمن ولو بواسطة الحاكم العسكري . وبعد الوحدة اليمنية وإعلان الجمهورية اليمنية عام 1990م تصاعد الصراع من جديد حول دستور دولة الوحدة وحول علمانية أو إسلامية الدولة بين اليسار والإسلاميين ولكن الفريقان أدركا أن هناك طرفا ثالثا يتربص بهما لينفرد بالسلطة ويبني مشروعه العائلي فظهرت أول بوادر اتفاق بين الحزب الاشتراكي اليمني باعتباره أكبر حزب يساري ومشارك في السلطة حينها و بين حزب التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي بالاتفاق على تعديلات دستورية للخروج من مربع الصراع حول مرجعية الشريعة إلى الاتفاق حول مرجعية الشريعة الاسلامية التي تتفق مع حقوق الانسان وحرياته وقيم الديمقراطية والحداثة، وبعد توقيع اتفاقية التعديلات الدستورية التي تزامنت مع توقيع اتفاقية سياسية للإصلاح السياسي- وثيقة العهد والاتفاق، أدرك النظام العسكري في صنعاء والقوى المتطرفة هنا وهناك خطورة هذا الاتفاق فساهمت في تصعيد الأزمة السياسية وإعلان الحرب عام 1994م و بهذه الحرب خرج الحزب الاشتراكي من السلطة، ولحقه تجمع الاصلاح في الخروج من السلطة بعد ثلاث سنوات، وابتداء من عام 1997 وحتى عام 2001م وجد الاسلاميون والقوميون واليساريون أنفسهم خارج السلطة وتحت طائلة التهميش والإقصاء من نظام على عبدالله صالح وحزبه الصوري –المؤتمر الشعبي العام-..
وبدأت قواعد الأحزاب تشعر بفداحة الثمن الذي دفعته نتيجة صراعاتها والتي كان يحاول فيها كل طرف اقصاء الآخر وكان المستفيد الحقيقي هو النظام العسكري والذي تحول الى نظام عسكري عائلي يعتمد على تحالفات قبلية ويستمد شرعيته من تغذية الصراعات المذهبية والمناطقية والحزبية وإدارة علاقات سرية مع جماعات العنف المسلح وافتعال صراعات معها في ذات الوقت لتخويف المجتمع من هذه الصراعات وتحصين شرعيته باعتباره صمام الأمان الذي سيؤدي اسقاطه الى اغراق المجتمع في دوامة عنف لن يخرج منها.
بعد عام 1997 أصبحت جميع القوى السياسية الحية والفاعلة خارج السلطة وتوفرت الظروف لتقييم الماضي وحصاد سنوات الصراع والثمن الباهظ لهذه الحروب ومعاناة الشعب المريرة التي تجسدت في الاغتيالات المتبادلة و آلاف الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين وعشرات الآلاف من الأيتام والأرامل وضحايا التعذيب واختطافات الاخفاء القسري وما يزال بعض المختطفين محجوبين قسرياً من مرحلة الثمانينات والسبعينات حتى الآن ، ميراث ثقيل لضحايا شوفينات العنف الشيوعي والديني والأحلام في بناء اليوتوبيات التي تقوم على اقصاء الآخر أو تفرضها النخبة على الشعب بالقوة ، وكان هذا الحصاد المر كفيلا بإقناع الساسة والحزبيين بضرورة إنقاذ الثقافة الحزبية وتأسيس ثقافة النضال المشترك وتجاوز جراحات الماضي.
بداية التأسيس
و في عام 2002 أنضم حزب الاصلاح الإسلامي إلى تكتل المعارضة الذي كان يضم الأحزاب اليسارية والقومية وأحزاب اسلامية محسوبة على المذهب الزيدي القريب إلى الطائفة الشيعية، وأعلن هذا التكتل عن نفسه باسم تكتل أحزاب “اللقاء المشترك” كأول كتلة تاريخية في الوطن العربي تجتمع تحت سقف مشروع وطني واحد يتجاوز جميع التناقضات ولا يلغيها، وبهذه الخطوة وضعت الأحزاب السياسية اليمنية الشعب اليمني أمام مسؤوليته الوطنية في الالتفاف حول هذه الكتلة التاريخية وقطعت الطريق على السلطة في صناعة الفزاعات الايديولوجية كمبرر لتأجيل التحول الديمقراطي وإخافة كل طرف من الأخر وتقديم نفسها كبديل وسطي يوزع الفتات على الجميع. وبالتزامن مع أحداث الثورة التونسية كانت الأحزاب في اليمن قد نجحت في توسيع الكتلة التاريخية الوطنية والتهيئة للثورة ففي تاريخ 14 ديسمبر 2010 وجهت المعارضة نداء لهبة شعبية وتدشين احتجاجية سلمية عبر جدول زمني، إلا أن الاستجابة لهذه الدعوة ظلت محدودة في إطار اعضاء الأحزاب الملتزمين سياسيا، وكانت الثورة بحاجة إلى الشرط الثالث لاكتمال نجاحها فبعد تحقيق الشرطين الأول والثاني بوجود الفساد والاستبداد ووجود الاحساس الشعبي بهذه الوضعية، كان الشعب بحاجة إلى اليقين بقدرة الثورات السلمية على التغيير والاطمئنان إلى وجود حامل سياسي للثورة يستطيع السيطرة على حالة الفوضى التي قد تنجم بعد أي ثورة. وبعد اندلاع الثورتين التونسية والمصرية اندفع الشعب الى الثورة قبل الأحزاب هذه المرة. والمهم في هذا السياق التأكيد على أهمية الدور الذي اضطلع به اللقاء المشترك باعتباره الكتلة التاريخية الوطنية ذات المشارب الايديولوجية والمذهبية المختلفة في بلد يشهد العديد من التعقيدات والتحديات فمع اندفع بعض الشباب المتحمس إلى الشارع أنتظر الكثير من المواطنين إعلان الأحزاب مشاركتها في الثورة ليتأكد لهم جدية المسار الثوري ووجود الحامل السياسي لمشروع الثورة لأن الجميع يدرك أن النظام في اليمن تمكن من تفكيك المؤسسة العسكرية الوطنية وأن معظم المؤسسة العسكرية والأمنية القائمة مؤسسة عسكرية وأمنية عائلية ولا يمكن أن تكون حاملاً سياسياً لمشروع الثورة فحتى الوحدات العسكرية التي باركت الثورة جاءت من ذات المنظومة العائلية والمناطقية للنظام العائلي.
دواعي وجود اللقاء المشترك
هل كان هذا التوافق السياسي اليمني ضروريا في مقابل التضحية بالمشاريع الايديولوجية ؟ الاجابة على هذا السؤال لا يحتاج الى استدعاء تاريخي للظروف التي فرضت ثورات الربيع العربي، فبعد الثورتين التونسية والمصرية تبدت مطالب التغيير أو الإصلاح السياسي واضحة في وعي ووجدان الشارع العربي، ولم تكن بحاجة إلى مشاريع نظرية و تعميمات ايديولوجية إذ صار واضحاُ أن أنظمة الحكم في الجمهوريات العربية التي تحولت إلى جمهوريات عائلية وصلت إلى آخر مراحل الانسداد السياسي و أن الديمقراطية الصورية في هذه الجمهوريات لم تعد تتسع لغير أسرة الرئيس وخواص الخواص في حزبه الديكوري وبعض الطفيليات الانتفاعية في مؤسسات الدولة والمجتمع.
ومن هنا تولدت الحاجة إلى التوافق الوطني حول كتلة تاريخية لإنقاذ اليمن وتأجيل الصراع الايديولوجي ولا سيما بعد تجارب الصراع العنيف والطويل في اليمن بين اليسار والاسلاميين والذي كان في بعض تجلياته امتدادا للحرب العالمية الباردة بين المعسكر الشرقي والغربي وبعد أن اتضح للأحزاب حسب تصريح للدكتور ياسين سعيد نعمان أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني أنها كانت تتقاتل ولا تعرف لماذا تتقاتل ؟!.
ظروف ولادة المشترك
لقد جاء اللقاء المشترك في اليمن بعد تفكير عميق بماضي الصراع الدموي وافرازته على الحياة السياسية والمحصلة التي تمخضت بوجود نظام عائلي عسكري يراهن على انشغال الاحزاب بصراعاتها كما يراهن على نجاح الأنظمة العائلية في الدول المجاورة وانحراف مسار بعض الجمهوريات العربية ولكنه كان يتجاهل أن الأنظمة العائلية ربما تستقر في بعض الدول بسبب التجانس الاجتماعي والوفرة الاقتصادية الناجمة عن الطفرة النفطية أو غيرها ،ولكن هل تنجح هذه الأنظمة في دولة تزدهر فيها التعددية الاجتماعية القبلية والتعددية المذهبية والسياسية و هل يمكن أن ينجح في دولة هي نتاج لتوحد جمهوريتين وطنيتين لهما ميراثهما في النضال الوطني ضد الاستبداد والاستعمار فضلاً عن مشكلاتهما الاقتصادية والسكانية وتعقيداتهما الاجتماعية والمذهبية و التي تفرض وجود نظام سياسي رشيد قادر على مواجهة التحديات ولا يسمح بنهب الثروة والعبث بمقدرات البلد لبناء أمبراطوريات مالية للعائلة الحاكمة ومن يدينون لها بالولاء ويشاركونها في الفساد؟
لقد كان اللقاء المشترك صحوة متأخرة من القوى السياسية وان كانت متقدمة على مستوى الوطن العربي بعد أن وصلت اليمن إلى حافة الهاوية على المستوى الاقتصادي و إلى آخر النفق المظلم في الانسداد السياسي وفي سبيل مواجهة هذا التحدي الجديد حاولت السلطة تفكيك هذا التحالف وأخطر محاولات التفكيك تمثلت في اغتيال أهم مهندسي اللقاء وأبرز مؤسسيه الشهيد جارالله عمر في أشهر عملية اغتيال سياسي في اليمن نفذها عنصر جهادي نجحت الاجهزة الأمنية في توجيهه نحو الهدف واختيار مكان العملية لإثارة الفتنة بين أكبر حزبين في اللقاء المشترك- الاصلاح و الاشتراكي- وبعد أن تجاوز المشترك هذه المحنة وحافظ على تماسكه لجأت السلطة إلى افتعال حروب داخلية حصدت آلاف القتلى في شمال الشمال وفي الجنوب وتسببت هذه السياسيات الهمجية الاستحواذية في تمزيق الهوية الوطنية وظهور النزعات الانفصالية والمذهبية التي تعتبر اليوم معالجتها من أخطر التحديات أمام حكومة الوفاق القائمة وأمام مائدة الحوار الوطني, فضلا عما أودت إليه سياسية الاستحواذ العائلي من تنامي الفساد الإداري والمالي واستبعاد الكفاءات ومحاباة الأقارب والمتملقين وإشاعة التزوير في الانتخابات والكذب في وسائل الإعلام وتدمير سائر القيم والأخلاق النبيلة؟ وسائر ما يتشكل على هامش هذه السياسيات من ظواهر مقززة، تتحول فيها الوظيفة العامة والأموال العامة إلى وسائل للابتزاز والمتاجرة وامتهان الكرامة وتغييب الثقافة النقدية الوطنية الإصلاحية وظهور المثقف الانتهازي والاعلامي الانتهازي وعالم الدين الانتهازي والاكاديمي الانتهازي وطبقة كبيرة من الموظفين الذين يتعايشون مع منظومة الاستغلال ويتبادلون معها المصالح الفاسدة مع الطبقة الارستقراطية التقليدية من التجار ومشايخ القبائل. لم يكن نظام الاستحواذ العائلي في اليمن يفكر في السنوات الأخيرة في أي تنمية باستثناء تنمية قدرات عائلته العسكرية والأمنية والاقتصادية واستمرار احتكاره للسلطة والثروة وفي سبيل هذه الغاية الخسيسة تسخر جميع امكانيات الدولة لخدمة هذا الغرض وإزاحة المنافسين والمعارضين و يتم الاجهاز على الفاعلية الاجتماعية والسياسية والمدنية وتطويعها لخدمة مصالح العائلة وفي سبيل هذه الغاية يقوم الحاكم الفرد بفتح كافة الأبواب أمام المطامع الدولية وهو لا يستطيع أن يحرك ساكنا لأنه يستمد مشروعية بقائه من هذه الأنظمة الخارجية التي تشرف على التجهيز العسكري لوحداته العسكرية العائلية ولا يستمد مشروعيته من الإرادة الشعبية الحقيقية التي تستطيع محاسبته على سياساته، ومن هنا تحول الحكم العائلي العسكري إلى شر مستطير يهدد سيادة الوطن وهويته ومقدراته، ولديه الاستعداد لتدمير الوطن وتخريب البنية التحتية وإهدار الثروة في صفقات مشبوهة في سبيل تلبية نزعاته المسعورة للاستحواذ على السلطة وحماية مكتسباته غير المشروعة وتحقيق مصالح أي قوى خارجية تستفيد من هذا التخريب وهذا التدمير.
أمام هذه التحديات و التعقيدات أدركت الأحزاب اليمنية ترف الصراع الايديولوجي حول مصطلحات العلمانية والدولة الإسلامية وقررت التوافق على اسقاط النظام العائلي، ونجحت الثورة في اسقاط رأس هذا النظام والشروع في الاسقاط التدريجي لبقية مكوناته العائلية و اسقاط السيطرة الفردية للحزب الحاكم على السلطة مع عدم حله أو اخراجه من الحياة السياسية مراعاة لتعقيدات الواقع اليمني، وحرصا على سلمية التغيير والتدرج الثوري في خطواته لتجنب الانجرار إلى الحرب أهلية.
دور المشترك في الثورة الشعبية
ومن أهم انجازات تجربة أحزاب اللقاء المشترك في اليمن بعد انضمامها إلى الثورة أنها استطاعت طمأنة بعض المترددين والمتوجسين من مستقبل ما بعد الثورة في بلد لديه مخزون كبير من الأسلحة بمختلف أنواعه ومخزون آخر من الصراعات والحروب الداخلية مما يجعل أي ثورة مغامرة غير محسوبة العواقب لا يمكن ان يشارك فيها الناس ما لم يكن هناك كتلة سياسية تمثل صراعات الماضي وتعقيداته متوافقة حول مشروع الثورة وبناء الدولة.
ومن أهم انجازات هذه التجربة المتميزة نجاحها في استقطاب المحيط الإقليمي والدولي لصف الثورة والتغيير، فقد فشلت الثورات العسكرية الأولى في اليمن في تحقيق الاستقلالية الوطنية وكان لمعظم أنظمة ما بعد ثورتي اكتوبر وسبتمبر في الستينات وما قبلهما علاقات تبعية واضحة بالمحاور الشرقية والغربية ابتداء من بريطانيا والعثمانيين الى النظام الناصري المصري والاتحاد السوفيتي والنظام البعثي العراقي والسعودية ونظام القذافي في ليبيا وأمريكا. ونظرا لحساسية موقع اليمن الجغرافي وتعقيدات واقعه الداخلي، كان من الصعب ان تنجح الثورة لو أن بعض الأطراف الدولية والإقليمية قررت دعم النظام لخوض حرب أهلية شبيهة بما يحدث في سوريا,, ومن هنا فقد كان توافق القوى الوطنية في الداخل بتناقض ايديولوجياتها اليسارية والقومية والإسلامية ذات الجذور السنية والشيعية أو القريبة من التيار الشيعي، كان لتوافق التناقضات السياسية الداخلية في اليمن دوره في طمأنة تناقضات السياسات الخارجية في المجتمع الدولي وعدم اصطفاف بعضها مع النظام العائلي، وتوافق الموقف الدولي حول المبادرة السياسية اليمنية التي صاغها اللقاء المشترك وبعض العقلاء في المؤتمر وتحولت بعد ذلك إلى مبادرة اقليمية برعاية دولية لفرض تسوية سياسية لتأمين خروج النظام العائلي من السلطة وتحقيق التغيير السياسي عبر مؤتمر الحوار المنعقد حالياً.
أهمية اللقاء المشترك في الفترة الراهنة
مهما شاب تجربة اللقاء المشترك من أخطاء سيظل المشترك وشركاؤه في اليمن الحامل السياسي لمشروع التغيير وأهداف الثورة التي لم تتحقق بعد، والمسؤول أمام الشعب على مواصلة النضال من أجل تحقيقها، و لهذا يستميت أعداء الثورة في استغلال بعض التناقضات الآنية التي ظهرت بعد الانتقال مع المعارضة الى المشاركة في السلطة ويأمل بعض أعداء الثورة أن يفضي تضخيم خلافات المشترك والنجاح في تفكيكه، إلى إهدار جميع التضحيات و ضياع دماء الشهداء وإعاقة حركة التغيير وصناعة اصطفافات متخلفة حول مشاريع صغيرة. ومن التحديات التي توجه هذه التجربة اعتقاد بعض أعضاء المشترك أن الحاجة إلى المشترك قد انتفت بعد سقوط نظام عائلة صالح مع أن الجميع يدرك أن مشروع الثورة في اليمن لم يحقق غير الخطوة الأولى بإزاحة رأس النظام ، وما يزال المشترك يجسد الحلم الوطني لبناء دولة الحلم المشترك وهو أكبر من مجرد تكتل سياسي، مع كونه التكتل الوحيد القائم على أسس وطنية ومحاولة إسقاطه قبل نجاح الحوار وتحقيق أهداف الثورة تهدف إلى إهدار جميع مكتسبات النضال الوطني والثورة السلمية في سبيل بناء الدولة الديمقراطية المدنية كما تهدف إلى صناعة استقطابات تتمحور حول مشاريع صغيرة تعود بنا إلى مرحلة السبعينيات وما قبلها، و نحن اليوم على أبواب تحقيق الهدف الكبير الذي قام من أجله المشترك في مؤتمر الحوار الوطني، وجدير بأعضائه عدم الاصغاء للأصوات النشاز التي تحاول الانقضاض على أجمل تجربة سياسية شهدتها الساحة اليمنية قبل موعد حصاد ثمارها الوطنية بأيام معدودة في تجسيد مأساوي لأمثولة من أفطر آخر الصوم ببصلة . ليس من مصلحة أي حزب سياسي التضحية بهذا التراكم النضالي الهادف لتحقيق المصلحة الوطنية في سبيل المصالح الحزبية الضيقة، ويقيني أن أحزاب المشترك لو قرررت الآن نقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً فإنها ستدفن نفسها وتاريخها قبل أن تكون قد ساهمت في وأد الحلم الوطني في بناء الدولة. وأمام مؤتمر المتحاورين الآن تركة ثقيلة لا تستطيع أي قوة وطنية أن تواجهها منفردة ولا يمكن بناء الدولة في اليمن دون استمرار توافق هذه الكتلة التاريخية الوطنية فلن نستطيع اليوم انجاز عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة ما لم نحافظ على حالة الوفاق الوطني ونستعيد القاعدة المشتركة للنضال الذي يحتفظ فيها كل فريق بايديولوجته ويوتوبيته الخاصة ويناضل مع الجميع في سبيل بناء دولة الحلم المشترك التي تتسع للجميع وأخطر ما يهدد ثورات الربيع العربي اصرار بعض المراهقين هنا وهناك على التترس خلف الايديولوجيات والمحاولات العبثية في تقديم العربة الخاصة على الحصان العام تحت وهم ادعاء تمثيل الحق المطلق أو الطهورية والنقاء الثوري والاعتقاد بانحراف الآخر أو رجعيته وتخلفه واصرار البعض على استنزاف دولة ما بعد الثورة في صراعات تعيق عملية التحول الديمقراطي و إعادة إعمار ما دمرته الأنظمة السابقة وبناء الدولة المدنية المؤسساتية الحديثة .
كيف تجاوز المشترك تجاوز معركة الشريعة والعلمانية؟
بعد تجارب الصراع المريرة وصلت جميع القوى السياسية الحية في اليمن إلى قناعة عميقة بضرورة تحييد الدين عن معركة الصراع السياسي باعتبار الشعب اليمني شعباً مسلماً ولا توجد فيه أقليات معتبرة ولهذا تجاوزت مرحلة الصراع حول المرجعية التشريعية الى النقاش حول كيفية تصحيح الشرعية السياسية وبناء الدولة والمعضلة الحقيقية اليوم أمام المتحاورين في اليمن تتعلق بشكل الدولة وكيفية الحفاظ على وحدة اليمن بعد ظهور النزعات الانفصالية الناتجة عن ممارسات النظام السابق، وهناك جدل محتدم حول شكل الدولة القادمة في اليمن بعد الاعتراف الرسمي بالقضية الجنوبية ووجود ممثلين للحراك يطالبون بتقرير حق المصير واتجاهات أخرى تبني الدعوة الى الفيدرالية والدولة الاتحادية بدلا عن الدولة الموحدة. و من غير المتوقع أن يختلف المتحاورن حول دين الدولة ومصدر تشريعاتها، فالاعتقاد السائد أن العقد الاجتماعي لا ينبغي ان يكون سببا في الصراع، فإذا كانت الأغلبية المطلقة ترفض العقد الاجتماعي الذي لا يحترم مرجعية القيم و التعاليم الاسلامية المرتبطة بالكثير من التفاصيل الحياتية التي يؤمنون بها فإن الضمير الديني سيدفع الأغلبية إلى مربع الصراع مع هذا العقد ولن يصب ذلك في مصلحة بناء الدولة،، وما دام الكثير من المتدينين لا يرفضون إنشاء عقد اجتماعي جديد يعلن انطلاقه من الفلسفة القيمية والعقدية للشعب المسلم التي اختارها الشعب بحريته وإرادته الطوعية، ولا يمانعون أن ينص هذا العقد على المواطنة المتساوية و احترام الحقوق والحريات و حقوق الأقليات في الاحتكام الى قوانين مرنة تستوعب حريات غير المسلمين في قوانين الأحوال الشخصية أو غيرها وما دام هؤلاء المتدينون يعترفون بهذه التعددية ويؤمنون بحرية التعبير واحترام حرية الاعتقاد واختيار الدين بما في ذلك الانتقال من دين إلى آخر في حدوده الفردية التي لا تتحول الى تحريض وتمرد على العقد الاجتماعي لمجتمع المسلمين الذي يعيشون فيه جميعا ومادام هذا العقد يسمح للمشاريع غير الاسلامية أن تنافس حتى لو اشترط عليها عدم التبني العلني لمشروع سياسي يتعارض مع الفلسفة العقدية للمجتمع، في ظل كل ذلك فما المصلحة في الاصرار على الدخول في متاهة الصراع وتحويل العلمانية إلى مشكلة كنسية تحاول الكهنوتية النخبوية أن تفرضها على الشعب بالقوة وترفض هذا الشكل المتاح من التوافق.
لا خلاف إذاً على أن الشعب هو مالك الشرعية السياسية، وهو صاحب الحل والعقد سواءً كان مسلماً أو مسيحياً أو شيوعياً أو بوذياً، وفي العالم الإسلامي لو اتفقنا على الأقل على أن الشرعية الشعبية للشرعية السياسية سنتجاوز الصراع الطائفي والأيديولوجي وإذا انتقلنا إلى مرحلة ممارسة السلطة والمرجعية التشريعية للحكم، فالصراع الحقيقي في العالم الإسلامي لن يكون حول ماهية الحكم هل هو ديني أو مدني؛ لأن الإسلام دين مدني في طبيعته، يؤمن بشرعية الشعب السياسية، ويحترم حقوق الأقليات، ولا يمنع من التعايش معهم في عقد مواطنة متساوية. وفي الأخير يجب أن نؤمن أن مرجعية الشرعية السياسية هي الشعب، وأما المرجعية التشريعية فهي انعكاس طبيعي لفلسفة المجتمع وعقيدته وما يؤمن به، ولن يستطيع أي فريق إجبار أي مجتمع على الاحتكام إلى مرجعية لا يؤمن بها سواءً كانت مرجعية علمانية مدنية أو دينية، ولاسيما بعد أن تتتحرر إرادة الشعوب. ولهذا تعلن الكثير من القوى اليسارية والقومية المصرية أن جوهر الخلاف بين بعض القوى الوطنية والإسلامية في مصر لا يتمحور حول الشريعة ويعني ذلك أن الخلاف في حقيقته يتمحور حول الشعور بأن التحول الديمقراطي لن يصب في مصلحة بعض القوى، وهذه القوى غير مستعدة لتدفع تكلفة هذا التحول وبعضها بحاجة إلى طمأنة حول عدم استحواذ الاسلاميين على السلطة وتكرار أنماط الأنظمة الاستبدادية السابقة ولكن التعبير عن هذه الحالة من الارتياب يتخذ مسالك احتجاجية متلبسة بمشاعر الحنين إلى الماضي الديكتاتوري والرغبة في الاقصاء ومحاولة الاستقواء بالانقلابات العسكرية والمؤامرات الخارجية. وعلى الإسلاميين أن يدركوا أن الوطن يتسع للجميع ، وأن الاستقواء بالأغلبية في مرحلة بناء الدولة خطأ فادح قد يقوض بنيان الدولة.
أهمية تعانق الدين والإنسان والوطن في كتلة التغيير التاريخية
بدأ المشروع النهضوي العربي في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مشروعاً متكاملاً تتكامل أبعاده الدينية بالأبعاد الإنسانية والوطنية كما تبلور في جهود وكتابات رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم وكما استمر في ثقافة بعض المفكرين والمناضلين المتأخرين ومنهم محمد عمارة ومالك بن نبي ومحمد الغزالي وفي اليمن عبدالله الحكيمي وباكثير والزبيري والنعمان وغيرهم. وفي اعتقادي أن عملية ارتباك كبيرة عاشتها المنطقة العربية بعد سقوط السلطة السياسية الجامعة للعرب والمسلمين ممثلة بالدولة العثمانية وتداعيات الحرب الباردة بعد ذلك وما نتج عنها من انقسام الصف العربي والإسلامي بحكوماته ونخبه السياسية والفكرية، فانقسم مشروع النهضة على نفسه بتحول الإحياء الديني إلى مشروع مستقل، وتبلور التيار القومي الوطني في تيارات مستقلة انقسمت على نفسها بين بعثية وناصرية ووطنيات قُطرية، وظهر التيار الإنساني الاجتماعي – الاشتراكي- في أحزاب مستقلة، ولم تتحاور هذه التيارات للاتفاق على أسس مشتركة للإصلاح الديني والبناء الوطني وخدمة الإنسان، بل دخلت في حروب استنزافية متخلفة، حاول فيها كل طرف إقصاء الآخر، فاعتقدت التيارات اليسارية والقومية أن تيار الإحياء الديني متخلف وممثل للقوى التقليدية بناءً على قراءات مبسترة لصراع الكنسية والدولة الحديثة في أوربا وحاولت إزاحة التيار الديني بالقوة، ودافع تيار الإحياء الديني عن وجوده باعتباره ممثلاً لهوية الأمة التي تتعرض للخطر من عملاء الاستعمار الشرقي أو الغربي، واستغلت هذه الصراعات شخصيات عسكرية وصولية، ونجحت في تهميش الجميع والاستعانة بكل تيار ضد الآخر لتثبيت سلطتها، واحتكار السلطة والثورة وبناء أحزاب انتفاعية فاسدة، وحولتها إلى أحزاب صورية حاكمة لتوسيع دائرة كبار المنتفعين من الفساد وتبرير شرعيتها, حتى جاءت ثورات الربيع العربي لتضع حداً لهذه الأنظمة الاستبدادية، وتضع القوى الوطنية أمام مسؤوليتها من جديد، وفي اعتقادي أن الوقت حان لإعادة بناء مشروع النهضة اعتمادا على منطلقاته الثلاثة: الدين والإنسان والوطن، فلا نهوض دون تربية دينية وإصلاح ديني يعمل على توظيف طاقات التدين في ميادين البناء والتغيير بدلاً من إهدارها في حروب طائفية أو حروب مفتعلة للدفاع عن الهوية، والدين إنما جاء لتتميم مكارم الإنسانية ورحمة للعالمين، والوطن هو المساحة الجغرافية للوطن العربي والإسلامي التي يجب أن تحتضن مشروع النهضة، ومنطق العقل والواقع يؤكد ضرورة الإيمان بالدولة الوطنية القُطرية أولاً والعمل على إصلاحها وتطويرها باعتبارها اللبنة الأولى لأي تكامل عربي أو إسلامي.فالدين جاء لمصلحة الإنسان ولا تتحقق هذه المصلحة بدون بقعة جغرافية يتوقع عليها مشروع النهضة.
ما أحوج القوى السياسية إسلامية كانت أو يسارية أو قومية، إلى إدراك ضروة تلازم هذه الأبعاد لمشروع التغيير في مشروع واحد يساعدنا على تجاوز صراع الايديولوجيا نحو صراع استكمال عملية التحول الديمقراطي وتهيئة الأجواء لعملية التنمية الشاملة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.